باريس 13: بين «كسب الوقت» و«اللاعودة»!
ضمن استفحال معالم الأزمة الأمريكية بمختلف جوانبها واتجاهاتها، وتعثر مشاريع واشنطن الشرق أوسطية بمسمياتها المختلفة، تتجه الأنظار إلى العاصمة الفرنسية باريس التي تستضيف هذا الأسبوع اجتماعات ما يسمى بـ«الاتحاد من أجل المتوسط» سعياً فرنسياً وراء تحقيق جملة من الأهداف التي تبدأ من الرغبة في نفخ الروح أكثر فأكثر بنزعة الهيمنة الفرنسية ولا تنتهي بتنازع المصالح وإعادة تقاسمها وأدوارها مع المنافس الأمريكي المقترب من حد الاحتضار.
المكسب السياسي والأمني المباشر الذي تبتغيه باريس من الاجتماع المقرر عشية الاحتفالات بسقوط الباستيل، وللمصادفة بالتزامن مع الذكرى الثانية لشن عدوان تموز الفاشل على لبنان، يتمثل في جمع عرب حوض المتوسط، ولاسيما سورية ولبنان، مع الإسرائيليين على طاولة واحدة، رغم تأكيد دمشق عدم رغبتها وعدم جهوزية الوقت لإجراء لقاءات مباشرة بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين على هامش الاجتماع المذكور، واكتفائها بـ«مفاوضات اسطنبول غير المباشرة».
أما المكاسب الإستراتيجية من المنظور الفرنسي التوسعي المتجدد فلا تتوقف عند مساعدة الكيان الإسرائيلي مرة أخرى في محاولته أن يحقق سلماً وعبر الوسائل الاقتصادية ما لم يستطع تحقيقه حرباً وبالوسائل العسكرية، (مع الأخذ بعين الاعتبار أن «إسرائيل» الواقعة في الجنوب الفقير والمستَغل جغرافياً تصنف من دول الشمال الغني والمستغِل اقتصادياً وسياسياً واستعمارياً)، بل يتعداه إلى محاولة منح تركيا «جائزة ترضية» تعوضها عن رفض عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوربي من جهة وتشكرها على جهودها في تسيير المصالح الأطلسية والإسرائيلية في المنطقة من جهة ثانية، وإلى محاولة استقطاب دول المغرب العربي وتعزيز تبعيتها الاقتصادية للسوق الأوربية- الفرنسية ضمناً- وإبعادها عن أي سوق عربية مرجوة أو محتملة.
وبينما انتهت قمة الثماني في هوكايدو اليابانية بمشاركة فرنسا بالطبع إلى خلاصات فضفاضة تذر الرماد في العيون تتحدث عن التزامات بخفض الانبعاث الحراري الكوني ولكن في عام 2050، وإلى الدعوة إلى التوازن بين إنتاج النفط واستهلاكه في وقت تشكل هذه الدول أكبر المستهلكين، ومحاولة واشنطن تحميل تبعية ذلك للاقتصادات الصاعدة بقوة كالصين والهند، مقترنة بدعوات لزيادة المحاصيل الزراعية لمواجهة أزمة الغذاء العالمي المفتعلة من جانب مراكز التحكم الفعلي برقعة الشطرنج العالمية، فإن جدول أعمال اجتماع «الاتحاد من أجل المتوسط» يتضمن أربع نقاط فضفاضة أيضاً هي: الطاقة والغذاء والهجرة والبيئة.
وفي بعض التفاصيل فإن فرنسا تتبنى في موضوعة الطاقة على سبيل المثال تسويق فكرة قيام دول جنوب المتوسط، مقابل تزويدها بمحطات كهروذرية، بإنتاج الطاقة الشمسية وتقديمها عبر شبكات الربط الكهربائي المُنتج لدول شمال حوض المتوسط التي ستكفي نفسها عناء استهلاك مصادر الطاقة التقليدية من النفط والغاز في ضوء ارتفاع أسعارهما عالمياً، وعناء معالجة الآثار البيئية والصحية المترتبة على المحطات الكهروذرية فوق أراضيها هي، على أن لا تتمتع دول الجنوب بحق الانتفاع من الطاقة المنتجة من شمسها وفوق أرضها، بعد أن استنفد الشمال الغني أو يكاد مصادر طاقتها تحت الأرضية!!
وفي موضوعة الهجرة وتحت يافطات متعددة من بينها ضرورة «مكافحة الإرهاب» والإجراءات الأمنية المطلوبة لاستئصاله مع مختلف الأمراض الاقتصادية والاجتماعية والتكيفية المرتبطة بمسألة الهجرة، تسعى دول شمال المتوسط إلى الحد أكثر فأكثر من تدفق الهجرة إلى داخل بلدانها، بل وإيجاد «جدار فصل عازل» مضاد لهذه الظاهرة على أن يتوقف عند دول جنوب حوض المتوسط، بعد تنميتها ومدها بالمساعدات المشروطة التي تخلق فيها بيئات مساعدة للهجرة إليها من الدول المجاورة والواقعة إلى جنوبها هي.
أما عن موقع ذلك من التحولات والتطورات الجارية في المنطقة، فقد بات معظم المراقبين يرددون ما أشرنا إليه منذ البداية من أن «التهدئة» المزعومة على غالبية الجبهات في المنطقة إنما تبتغي فك التحالفات فيما بين قوى ودول المقاومة والممانعة فيها تمهيداً لجولة عدوانية كبرى جديدة لا تجد تل أبيب أو واشنطن بداً من المغامرة بها على الرغم من توجسهما من أن آثارها ستطال مستقبل المنطقة والمصالح الغربية فيه وربما خارطة التوازنات في العالم ولاسيما أن المناورات السياسية من جانب مختلف أطراف معسكر المقاومة والممانعة ماتزال في مرحلة «كسب الوقت» ويُستبعد حالياً أن تصل إلى نقطة «اللاعودة».
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.