إصلاح النظام المالي العالمي - طرح نظري

الأزمة المالية الحالية تعود، كما أصبح إلى حد ما معروفاً، إلى:

• كون دولار الولايات المتحدة عملة دولية

• كون التضخم النقدي الأمريكي تجاوز كل حدود

• الهيمنة الأمريكية السياسية والاقتصادية، التي تفرض الدولار الأميركي عملة دولية دون أي غطاء، وتفرض سياساتها المالية والاقتصادية على المؤسسات المالية الدولية: على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنوك المركزية لأغلب الدول ولقاءات الدول السبع أم الثماني... الخ.

ولكي تحل الأزمة المالية جذرياً، من الضروري حل إشكاليات العوامل، التي أدت إليها.

 

الهيمنة الأمريكية ليست مسألة نظرية، وإنما هي واقعية وحل إشكالياتها الاقتصادية هو بالدرجة الأولى في يد الدول الثماني، وإذا بقيت هذه راضية بسيف الأزمة المسلط فوق رؤوس شعوبها وإداراتها، فلا يبقى سوى الشعوب طرفاً قادراً يوماً ما على رفع نير الهيمنة السياسية والاقتصادية معاً عن كاهله. والموضوع هنا هو سياسي ونضالي وتاريخي، ولسنا بصدد الحديث فيه.

من جهة أخرى لا يمكن حل الأزمة المالية حالياً ومستقبلاً، ما دام دولار الولايات المتحدة عملة دولية، ولا تذهب صفتها هذه بطرح عملة وطنية بديلة، مثل الجنيه البريطاني، أو الفرنك الفرنسي، أو حتى اليورو، وفي الوقت نفسه لا يمكن لأي عملة بديلة أن تحل محل الدولار الأمريكي في الوضع الاقتصادي الحالي، أولاً بسبب تاريخية الدولار وتغلغله عالمياً في الادخار والتبادل وبلورة القيمة التي تحدد بها مختلف السلع، ثانياً، لأنه من غير الممكن واقعياً سحب ذلك التغلغل، وإحلال تغلغل آخر.

العملة الدولية كانت في الماضي سلعة متفق عليها اجتماعياً وتاريخياً، ومن الضروري أن تكون مستقبلاً كذلك، لأن السلعة المادية تنطوي على قيمة بذاتها، أما العملة الورقية فلا تنطوي على مثل ذلك.

إلى وقت قريب كان الذهب عملة دولية، وحتى في بريتون وودز /1944/ اعتمد دولار الولايات المتحدة نقداً دولياً، لأنه ربط نفسه بالذهب.

الآن يمكن أن يعود الذهب نقداً دولياً، ولكن ليس الذهب المعدن، وإنما الذهب النظري.

مثلاً يمكن أن تقدر قيم السلع بدءاً من برميل البترول وحتى أصغر سلعة بأونصات الذهب وأجزائها وأضعافها، وبعدئذ يتم تبادلها بأية عملة كانت وعلى أساس أسعار الذهب في السوق، فيمكن تبادل سلعة قيمتها أونصه ذهبية بثمانمائة دولار «إذ أن سعر الأونصة هو كذلك» أو بما يعادلها يورو أو ين ياباني، إلخ.

ولكي يكون التبادل دولياً يجب إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ديمقراطياً أولاً، ووظيفياً ثانياً. فيمكن أن يكون صندوق النقد الدولي من خلال صلته بمختلف البنوك المركزية أداة تبادل بين العملات، فالبنك الذي لديه دولارات ويحتاج يورو، أو أية عملة أخرى يمكن أن يستبدل دولارات من الصندوق، ووفق الأساس الذهبي، مع تغير هذا الأساس مع تغير أسعار الذهب في السوق. غير أن الهيمنة على الصندوق يمكن التلاعب من خلالها بسعر الصرف الذهبي، فتعود الأمور إلى ما كانت عليه أيام بريتون وودز، لذا من الضروري الإصلاح الديمقراطي للصندوق.

أيضاً الإصلاح الديمقراطي للبنك الدولي يجعله بنك تنمية فعلاً، ويمنح قروضه لهذا الغرض دون أهداف سياسية. والقروض في هذه الحالة تمنح بالنقد الذهبي، ويحصل البلد المستفيد على معادل القرض من أية عملة يحتاجها من الصندوق.

وإذا ما استطاعت دول العالم أن تصل إلى اتفاق على أن يكون الذهب هو العملة الدولية النظرية، وعلى أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هما اللذان يرعيان وينظمان العلاقات المالية الدولية بعد إصلاحهما ديمقراطياً ووظيفياً، حينئذ يترك للدول أن تفعل بنقدها ما تريده من أجل معالجة التنمية الاقتصادية فيها، وعدم الانكماش الاقتصادي. وعلى مسؤولية إداراتها، والعلاقات المالية الدولية يُحدد سقف التضخم بالنسبة لكل دولة. أيضاً يصبح التضخم النقدي في الولايات المتحدة مرتبطاً باقتصادها لا بالاقتصادات العالمية، ولا بتغطية البنوك المركزية لوحدتها النقدية.

طبعاً يحول دون كل ذلك الهيمنة الأمريكية، ويقع المرء في الدائرة المفرغة: إصلاح النظام المالي يقتضي رفع الهيمنة، والهيمنة تمنع إصلاح النظام المالي العالمي.

ربما في هذه الحالة تستطيع كتل دولية مثل الاتحاد الأوربي، أو دول آسيا الشرقية، أو حتى الدول العربية أو الشرق-أوسطية، أن تقوم بإصلاح نقدي فيما بينها، فتتفق على جعل الذهب عملتها الدولية، وتقيم مؤسستين شبيهتين بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وإذا ما أمكن الوصول إلى مثل ذلك، فقد يتوسع النظام الإقليمي إلى أن يصبح دولياً. ولكن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه...» هنا أيضاً الهيمنة الأمريكية تفعل فعلها. الكتل المذكورة، وغيرها لا تستطيع الاستقلال عن الإدارة الأمريكية، لا سياسياً ولا اقتصادياً. الرأسمالية الدولية متشابكة المصالح ومتناقضتها في الوقت نفسه، ولا يسمح المركز الرأسمالي الدولي ـ وهو في الولايات المتحدة ـ للتناقض أن يفعل فعله، فيجب أن يكبت، لأن الانهيار الجزئي، يؤدي إلى الانهيار الكلي، وهذا ما تحول دونه كل قوة الإدارة الأمريكية وترساناتها المادية وغير المادية.

طبعاً كل شيء ممكن نظرياً إذا ماكان ممكناً اقتناع الكتل الدولية المذكورة بإصلاح النظام المالي جذرياً، ولكن التحالف المصيري بين إدارات مختلف الكتل الدولية والإدارة الأمريكية يحول دون أي مسار مستقل ولو رأسمالياً لتلك الكتل.

يبقى الخضوع لمفاعيل الأزمة المالية، سواء احتج المتضررون أم لم يحتجوا، إن إصلاح النظام المالي الدولي لا يأتي بالتوسل للإدارة الأمريكية، كي ترضى بالإصلاح، أو كي توافق على إجراءات إصلاح، فمثل ذلك يتناقض مع مصالح عمالقة المال الأمريكيين، التي تؤلف خطوطاً حمراء لأية إجراءات دولية مفيدة، لا فيما يتعلق بالنظام المالي فقط، وإنما أيضاً فيما يتعلق بالبيئة، والسلام العالمي، وبمستقبل الحياة على الكوكب.

التناقض الرأسمالي- الرأسمالي قد يأتي وقت وينفجر، ولكن يحتاج تحركاً من الشعوب، المتضرر الأكبر من الأوضاع المالية، ولا نعتقد أن الاستسلام الذي نراه اليوم سيدوم طويلاً.