«موسم المحاكم».. من بيروت إلى الخرطوم
مازالت ماثلة في ذهن الرأي العام العربي والدولي الأجواء الإقليمية والدولية التي أقرت فيها المحكمة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري يوم 14 شباط 2005 وماتلا ذلك من محاولات أمريكيةـ صهيونيةـ رجعية عربية، تابعة لتسييس المحكمة واعتبارها إحدى الأدوات الناجعة في تنفيذ مخطط إدارة بوش والكيان الصهيوني في تفتيت المنطقة واستباحتها.
... وإذا كان من اللافت تأخير البدء في عمل المحكمة الدولية ما ينوف على أربع سنوات تخللتها كل أشكال التزوير والابتزاز والتضليل والاتهامات في كل اتجاه، خصوصاً تجاه قوى المقاومة وسورية، فمن اللافت أيضاً الآن توقيت بدء عمل المحكمة في أول آذار في الأسبوع الذي ستعلق فيه قوائم المرشحين للانتخابات اللبنانية من المعارضة والموالاة.
.... وهذا يسمح لنا بالاستنتاج أن الحملة الإعلامية التي رفقت الإعلان عن بدء عمل المحكمة يراد منها أن تكون ورقة واضحة في صندوق الانتخابات لصالح فريق 14 آذار، الذي تخلخلت قاعدته الاجتماعية بعد انتصار المقاومة في حرب تموز 2006 وما تلاها من مواقف صادرة عنه تتناقض حتى مع اعتراف العدو الصهيوني بهزيمته في تلك الحرب.
ومن هنا نرى بأن ما نشهده من تغييرات في التكتيك السعودي تجاه سورية منذ «قمة الكويت» تحت يافطة «المصالحات العربية»، يهدف إلى التشويش على التحالفات الإقليمية واللبنانية وتقديم وسائل مضللة عن حقيقة الموقف السعودي بعد تعثر المشروع الأمريكي في المنطقة وبعد فشل حرب تموز وفشل ضرب المقاومة الفلسطينية في غزة وكذلك بعد انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية للرأسمالية.
... ولا يفوتنا التذكير بأن «الليونة السعودية» جاءت بالتوازي مع إعلان إدارة الرئيس باراك أوباما انتهاج «الإستراتيجية الدبلوماسية الذكية» تجاه إيران وسورية، ولكن مع استمرار محاصرة دورهما الإقليمي. وفي آخر تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية، جاء «إن مصر فقدت دورها لمصلحة السعودية في المنطقة دون أن تكون السعودية راغبة في لعب هذا الدور علناً». ويشير التقرير بوضوح إلى أن مصر والسعودية والأردن مع الوصول إلى إقامة سلام مع «إسرائيل» من أجل «لجم التطرف الإسلامي في المنطقة».
... وهنا ليس خافياً على أحد أن الإمبريالية الأميركية هي راعية الفكر التكفيري، والسعودية مولته ودفعت ثمن أسلحته من أفغانستان وباكستان إلى الجزائر واليمن وكل المنطقة. ولكن واشنطن والرياض لا تقبلان بأية مقاومة إسلاميةـ وطنية ضد الاحتلالين الأمريكي والإسرائيلي في العراق وفلسطين ولبنان وفي المنطقة بوجه عام. وهذا ما يفسر اتهام المقاومة الحقيقية تارة بالمغامرة وتارة أخرى بمعاقبتها عبر استمرار الحصار ضدها ومحاولة تشويه صورتها وصمودها وانتصاراتها ضد الاحتلال.
... كما أن تحمس الاتحاد الأوروبي لبدء عمل المحكمة الدولية ليس فقط يشجع التكتيك السعودي الجديد إزاء سورية ولبنان، بل وصل الأمر بوزيري خارجية فرنسا وإيطاليا– كوشنير وفراتيني– أن يتعهدا لحكومة السنيورة باسم الاتحاد الأوربي بالعمل على تنظيم الانتخابات اللبنانية وإرسال مراقبين «حتى يكون الاقتراع مطابقاً للمعايير الدولية»، والعمل على نزع «سلاح المليشيات، وتطبيع علاقات لبنان مع محيطه الإقليمي». وحتى لا يكون هناك التباس حول مصطلح «المحيط الإقليمي» يقترح الوزيران: «إجراء مفاوضات بين لبنان وإسرائيل بوساطة إقليمية»!
... وبالتوازي مع بدء عمل المحكمة الدولية في أول آذار تم الإعلان عن «توجيه مذكرة قبض» على الرئيس السوداني عمر حسن البشير من محكمة الجنايات الدولية. ومجدداً فإنه وبغض النظر عن الموقف من رموز النظام الرسمي العربي وممارساتهم فإن ذلك يشكل من وجهة نظر الولايات المتحدة بداية أخرى لتنفيذ مخطط تفتيت السودان ونهب ثرواته عبر تسعير الصراع العرقي والقبلي والعشائري فيه، الشيء الذي يهدد جدياً وحدة وادي النيل والقرن الإفريقي لمصلحة المخطط الأمريكي في أفريقيا ككل.
... وبالمحصلة نلاحظ أن موسم بدء المحاكمات ليس هدفه كشف الجرائم ولا الحفاظ على حقوق الإنسان، بل هو رأس جبل الجليد من «إستراتيجية الدبلوماسية الذكية» للرئيس باراك أوباما، بحيث تتحقق فيها أهداف الصقور والمحافظين الجدد إياها، ولكن بوسائل جديدة تبدو «حمائمية» لخداع الشعوب. ففي العراق سيكون إعادة انتشار، وفي أفغانستان ستزداد قبضة الاحتلال، وفي فلسطين المحتلة سنواجه حكومة من صقور اليمين وغلاة المتطرفين العنصريين، والأهم سيبقى رأس المقاومة مطلوباً سواء بالترغيب أو الترهيب. ومن هنا لا سلام مع الاحتلال ولا مهادنة مع أدواته وتابعيه مهما غيروا جلودهم وتكتيكاتهم. وفي مواجهة كل هذا لا خيار إلا المقاومة.
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.