جدار «عجز مبارك»..
تجمع تحليلات غالبية المراقبين، بمن فيهم الوطنيون المصريون، على أن «الجدار الفولاذي» الذي يبنيه نظام حسني مبارك على حدود مصر مع قطاع غزة المحاصر، هو «خضوع للاتفاقية الأمريكية الإسرائيلية التي أبرمت مع وقف حرب الإبادة على غزة في كانون الثاني الماضي، وأساسها مراقبة وحصار يمتدان من مضيق جبل طارق إلى مضيق هرمز بمشاركة حلف الأطلسي لمنع التهريب إلى الشعب الفلسطيني، والتي نصت أيضاً على مراقبة حدود مصر مع غزة من سواحل شمال سيناء وأرضها
وحينها أعلن مبارك ووزير خارجيته أن تنفيذ هذه الاتفاقية من أرض سيناء هو خط احمر. ولكن من الثابت اليوم أن تلك التصريحات لم تكن إلا للاستهلاك المحلي فقط، فالسلطة المصرية اليوم تخضع وتنفذ الاتفاقية بصورة أفدح مما نشر عنها». (من بيان اللجنة المصرية لمناهضة الاستعمار والصهيونية، وهو ينسجم مع مضمون تصريحات لوزير الخارجية المصري الأسبق عبد الله الأشعل خلال ندوة جرت مؤخراً في الدوحة).
ويبدو جلياً أن منحى «تطور» نظام مبارك انتقل من «الاعتدال» إلى «التآمر» إلى «الانقلاب» على كل مسوغات استمراره منطقياً أمام «الشعب المصري» بعدما باع أوراق تلك المسوغات تباعاً وبات يصفيها، الداخلية والخارجية منها على حد سواء، أي تردي الأوضاع الشعب المصري اقتصادياًـ اجتماعياً وديمقراطياً، مع الانتقال كلياً بالشق الخارجي إلى مواقع العدو، وبيع كرامة المصريين «برخص تراب التشبث بالسلطة وطموحات توريثها».
ولكن ماذا تعني فكرة إقامة الجدران، وماذا كانت تعني مثيلاتها عبر التاريخ، من حيث المبدأ ومن حيث مؤداها ومآلها في نهاية المطاف؟
الجدار كفكرة هو تعبير عن العجز، عجز بانيه عن مواجهة استحقاقات ما، تدفعه في نهاية المطاف إلى حبس نفسه، لا المستهدفين، خلف ما بناه، لكي يًطبِق عليه، بعد ممارسة كل ضروب التضليل والإرهاب الفكريين، وغسيل الأدمغة، وتغييب الفعل الشعبي بأشكال متعددة، من بينها في حالة «مصر مبارك» نشر الشوفينية الشعبوية المصرية، والتذرع بموجبات «الأمن القومي» أو إطلاق الأكاذيب المكشوفة تغطية «للانقلاب عن الدور المتوقع من (أم الدنيا)» من شاكلة أن «الجدار هو مواجهة لمخطط إسرائيلي يبتغي إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة وجزء من سيناء»..!!
الحدود بين مصر وغزة، و«أنفاق التهريب» هي الرئة الوحيدة المتبقية أمام الغزاويين المحاصرين صهيونياً، في حرب إبادة بطيئة، لاستجرار أسباب الحياة وكذلك بعض مستلزمات المقاومة، أي ما أمكن من غذاء ودواء ووقود، وبعض قطع السلاح أيضاً مما لا يمكن تصنيعه محلياً. ويبدو أن صمود غزة إبان العدوان الإسرائيلي الأخير، بمعنى انتصارها بفعل إرادة المواجهة، أغاظ نظام مبارك بقدر ما أغاظ قادة الكيان، عندما كشف هذا الصمود وهذا الانتصار عجز هؤلاء عن النيل من تلك الإرادة، وإدراكهم أن حتى الجدران لن تنال منها (تصريحات الخبير الجيولوجي ومستشار رئيس أركان جيش الاحتلال السابق موشيه يعالون لشؤون الأنفاق يوسي لانغوسكي أن الجدار الفولاذي المصري لن يضع حداً للتهريب عبر الأنفاق، وسيفشل كما فشلت كل محاولات «إسرائيل» بالسابق في مواجهة الأنفاق).
من جانب آخر فإن هذا التناحر الجدلي بين «الجدران» و«إرادة المقاومة» يتجاوز مصر وغزة إلى تضارب الرؤى والمشاريع في المنطقة، وبخصوصها. ويبدو واضحاً أن «الجدار» وبقدر ما هو ورقة مصرية لمساومة حركة حماس وحكومتها، بمعنى محاولة تطويع مقاومتها وتركيعها، فإنه ورقة إقليمية تبتغي الهدف ذاته ولكن على مساحة أوسع. وما تصريح وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل «خيّرنا (خالد) مشعل بين العرب والآخرين» إلا إشارة بهذا الاتجاه، علماً بأن «الآخرين» هنا بالنسبة للفيصل هم إيران، وربما تركيا، ولكن ما فاته هو أن «العرب» عملياً، هم عربان، وليسوا على موقف موحد ومسافة واحدة مما يجري في غزة والمنطقة عموماً..!
وإذا ما تم ربط إقامة الجدار بمختلف أشكال ترهيب المتضامنين مع غزة في مصر وإعاقة وعرقلة مسار، وحتى إصابة قوافل مساعداتهم الإنسانية المتوجهة إلى القطاع بالتلف، وبالعودة إلى سؤال: «جدار عجز مَنْ وبوجه مَنْ؟»، يتضح أن نظام مبارك يستميت في محاولته عملياً تكميم أفواه المصريين وترهيبهم بالدرجة الأولى، لكي يقولوا: «إذا كانت العصي والغاز المسيل للدموع من نصيب المتضامنين الأجانب وهم أجانب ولهم سفارات قد تنتصر لهم، فماذا سيحل بنا في السجون والمعتقلات؟».
يبدو أن هذا ما يراهن عليه مبارك في إطالة أمد سلطته الآيلة للسقوط، بعد تجنيد الأزهر ومختلف الأبواق الإعلامية وأدوات النظام، بحيث تبقى الاحتجاجات الشعبية صغيرة ومعزولة ومتهمة بالخيانة والعمالة، أي أنه عملياً وعلى المدى المنظور يستكمل حفر قبر نظامه بيده، أي أنه يؤسس لانقلاب شعبي مضاد على «انقلابه». ولا يبقى أمام الوطنيين في الجيش المصري أو أنصار «حملة المليون توقيع على النت» ضد الجدار الفولاذي مثلاً إلا أن ينتقلوا، عند وصول حملتهم لبضعة مئات من الآلاف، من النضال في «العالم الافتراضي» إلى «الشارع» لكي تكون هذه الحملة «ولاّدة» لخالد إسلامبولي آخر، فتُسقط مبارك كنظام وتعيد لـ«بهية» بهاءها، وبعضاً من كرامتها المسفوحة، التي هي من كرامة شعوب المنطقة كلها..!