ليلة الترقب.. من الفشل إلى محاولات الاستثمار الداخلي؟
جرت ليلة الجمعة- السبت 16/ تموز الجاري، محاولة انقلاب عسكري في تركيا، تسارعت أحداثها بشكل كبير حتى صباح السبت، لتنتهي الموجة الأولى من التوتر الميداني بموجة أولية من الاعتقالات، شملت مجموعة من العسكريين والقضاة والمدنيين، في مختلف أنحاء البلاد، ولتبدأ بعدها الموجة الثانية من التبعات التي يستمر مفعولها حتى الآن.
إن كان المشهد السياسي لم ينجلِ تماماً حول ملابسات محاولة الانقلاب، وتبعاته اللاحقة، إلا أن أزمات تركيا السياسية داخلياً وخارجياً، والتي وصلت إلى أفق مسدود وتحديداً في مسألتي: القضية الكردية، والأزمة السورية، إضافة إلى تزامن محاولة الانقلاب مع بداية الاستدارة التركية نحو روسيا، يشي بتورط أجنحة فاشية داخل الحكومات الغربية- وتحديداً الولايات المتحدة- في التحضير لهذا الانقلاب.
فيما يلي، نورد أهم التفاصيل التي رافقت محاولة الانقلاب، وما تلاها من إجراءات وتغييرات في الداخل التركي، حتى ساعة إعداد هذا التقرير.
الساعات الأولى: ساعات الترقب
ابتداءً من الساعة 11:00م، قام الإنقلابيون بجملة خاطفة من التحركات، شملت إغلاق جسر البوسفور- الرابط بين شطري اسطنبول الآسيوي والأوروبي- وتعليق رحلات الطيران في مطار أتاتورك الدولي جميع، بالتزامن مع سماع أصوات الرصاص في العاصمة أنقرة، وتحليق مقاتلات ومروحيات في أجواء العاصمة.
في تمام الساعة 11:37م، أعلنت وحدات من الجيش التركي سيطرتها على السلطة في البلاد، مؤكدة استمرار العلاقات القائمة مع الدول الأجنبية، وأن «سيادة القانون يجب أن تظل أولوية».
الساعة 11:56م، فرضت الوحدات المشاركة في المحاولة الانقلابية حظر التجول، فيما دعا عمدة أنقرة المواطنين للخروج إلى الشوارع، محذراً من «اندلاع كارثة قريباً».
الساعة 12:21ص، الوحدات المشاركة في المحاولة الانقلابية تعلن تولي «مجلس السلام» لقيادة السلطة في البلاد، لحين إجراء انتخابات جديدة في مؤسسات الدولة جميعها، ووضع دستور جديد للبلاد، في الوقت التي سارعت فيه وكالة «فرانس برس» إلى إعلان احتجاز رئيس الأركان التركي، خلوصي آكار، من قبل منفذي الانقلاب.
الساعة 12:23ص: السفارة الأمريكية في أنقرة تصدر بياناً تحذّر فيه مواطنيها الموجودين على الأراضي التركية من التجول، واصفة الأحداث في تركيا بأنها «Turkish Uprising»، أي أنها انتفاضة أو هبّة تركية.
حوالي الساعة 12:24ص، نشرت وسائل إعلام تركية نبأ اقتحام المقر الرئيسي لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم في أنقرة، وبحسب رئيس فرع حزب «العدالة والتنمية» في اسطنبول، فإن جنوداً دخلوا مبنى الحزب وطلبوا من الموجودين المغادرة.
الرد الأول من الجانب الحكومي ظهر في الساعة 12:31ص، وجاء عبر خبر عاجل أوردته بعض المحطات التلفزيونية، تضمن إعلان الرئاسة التركية أنها لا تزال على رأس السلطة، وأن حزب «العدالة والتنمية» يحشد الجمهور للخروج إلى الشارع تنديداً بمحاولة الانقلاب.
تلا ذلك الظهور الأول للرئيس، رجب طيب أردوغان، عبر مكالمة فيديو هاتفية، لمحطة «سي إن إن تورك»، حيث دعا المواطنين للخروج إلى الشوارع والميادين للرد على المحاولة الانقلابية، مشيراً إلى أنه «بقوة الشعب والقانون ستتجاوز تركيا ما يحدث»، واتهم الرئيس التركي «التنظيم الموازي» بقيادة المعارض، فتح الله غولن، الموجود في الولايات المتحدة، بالوقوف وراء هذا العمل، قائلاً إن «محاولة الانقلاب تقوم بها مجموعة صغيرة داخل الجيش».
المحاولة توشك على الفشل
بعد ذلك، شهدت الأحداث تطورات معاكسة، إذ أنه وبعدما أخذ منحى التطورات في الساعتين الأوليتين من الأحداث نشاطاً كبيراً من منفذي الانقلاب، يمكن رصد مرحلة الساعات الأربع اللاحقة باتجاهين عامّين، الأول هو: في سيل التصريحات الداخلية والخارجية التي تراوحت بين الحذر، والدعم للحكومة القائمة في البلاد، والاتجاه الآخر هو في بداية الصدام العسكري بين مؤيدي ومعارضي الانقلاب، والذي يمكن وصفه بالدموي لكنه عملياً كان قصير الأمد.
على صعيد المواقف الدولية، انطلقت الموجة الأولى من التصريحات من موسكو، حيث كان وزيري الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، والأمريكي، جون كيري، يبحثان الأزمة السورية والتنسيق الروسي الأمريكي حول مكافحة الإرهاب، وبينما عبّر كيري عن عدم امتلاكه معلومات بحكم وجوده في اجتماعات طويلة في موسكو وأن معلومات الصحفيين ربما تكون أكثر، شدّد لافروف على ضرورة ضمان استقرار تركيا وتجنب سفك الدماء في تركيا، وتسوية القضايا وفقاً للدستور المعمول به في البلاد.
في تلك الأثناء، قام الانقلابيون بقصف مبنى البرلمان التركي، وتقريباً في الساعة 01:30 من فجر السبت، أكدت وكالة الأنباء الألمانية «DBA»، سماع دوي إطلاق نار في المجمع الرئاسي بأنقرة، مشيرة إلى رصد مروحية عسكرية تفتح النار هناك، ومشاهدة مواطنين يتوجهون نحو المجمع الرئاسي.
وفي الساعة 2:00ص، ذكرت وكالة «الأناضول»، أن مقاتلة أسقطت مروحية تابعة للانقلابيين، تلاها وحتى حوالي الساعة الثالثة صباحاً، جملة من الأحداث الدامية، أعنفها كان إطلاق النار على المحتجين أثناء محاولتهم عبور جسر البوسفور في اسطنبول، ووقوع إصابات بين المدنيين، وهو ما أثار حالة من الذعر في تلك المنطقة، كما سقط 17 من عناصر الشرطة التركية، بقصف نفذته مقاتلات الانقلابيين على مقر القوات الخاصة بأنقرة تضمن اقتحامه، فيما قصفت مروحيات أخرى مبنى رئاسة الأركان التابع للجيش التركي.
وفي حوالي الساعة الثالثة من صباح يوم السبت، أعلنت الاستخبارات التركية عودة الوضع إلى طبيعته في الشارع التركي، بحسب قناة «سكاي نيوز» التي كانت خلال الساعات السابقة من «المهللين» للانقلاب و«المثبتين» إعلامياً لنجاحه. وفي الوقت ذاته، عاد بث قناة «تي آر تي» التركية الرسمية بعد انقطاع دام لساعات بعد النجاح في إبعاد عناصر من الانقلابيين عن مبنى القناة.
تحركات حكومية ضد الانقلابيين
نقلت وكالة «الأناضول» خبراً مفاده أن قوات الأمن ضبطت وثائق تؤكد تنفيذ جماعة فتح الله غولن للانقلاب الفاشل، وقال أردوغان في مقابلة تلفزيونية مع قناة «سي إن إن» الاثنين الفائت، أنه يتم تحضير الأوراق فيما يتعلق بالطلب من الولايات المتحدة تسليم غولن، وأضاف أنه «في حال لم تستجب الولايات المتحدة لطلب تسليمه، وفقاً لاتفاقية تسليم المجرمين بين البلدين فإن تركيا ستتوقف عن تسليمها الأشخاص الذين تطلبهم، ممن يواجهون اتهامات في الولايات المتحدة».
إلا إن ما تلا ذلك من أحداث، فتح الباب أمام مخاوف من قبيل محاولة أردوغان استغلال الوضع بهدف تحييد معارضي سياسة «العدالة والتنمية» في الداخل التركي كلهم. وقد قال الرئيس التركي في معرض حديثه للقناة، إنه سيوافق على إعادة تطبيق حكم الإعدام في حال وافق البرلمان التركي على ذلك.
كما أعلن أردوغان يوم الخميس 21/ تموز، إنه «سيكشف النقاب» في أقرب وقت عن «هيكلية جديدة للقوات المسلحة»، مؤكداً أن «وجوهاً جديدة ستتقلد مناصب في الجيش»، ولم يستبعد أردوغان «إجراء بعض التعديلات في الدستور التركي» بعد المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري في البلاد.
وكانت الأجهزة الأمنية والشرطة قد شرعت بحملة اعتقالات واسعة، بُعيد ساعات من عودة الهدوء إلى الشوارع التركية، طالت حتى تاريخ إعداد هذا التقرير 10410 موقوفاً، بحسب تصريح لياسين أقطاي، نائب رئيس الحزب الحاكم، الذي ذكر في مؤتمر صحفي يوم الخميس الفائت إن من بين الموقوفين 287 شرطياً، و7423 عسكرياً، من بينهم 118 جنرال وأميرال، و2014 قاضياً ومدعياً عاماً فضلاً عن 686 مدنياً.
إن محاولة الانقلاب هذه تعكس بالدرجة الأولى الصراع الدولي القائم بين «التيار العقلاني» و«التيار الفاشي»، فالأخير الذي بدأ انقلابه يعلم تماماً أنه بغض النظر عن نجاحه في مبتغاه من عدمه، فإنه سيزيد من اشتعال المنطقة، من خلال إشعال تركيا ذاتها وإضعاف مختلف أطرافها ووضع صواعق تفجير مديدة فيها، وذلك كله يأخذ في حسبانه أيضاً أن تركيا، بموقعها الجغرافي، تعتبر من مناطق النفوذ الحيوي لروسيا المنخرطة في محاربة الفاشية الجديدة بمستوى عالٍ من الجدية.
وبهذا، يغدو «التنبؤ» الذي افترضه مركز الدراسات المذكور في مقدمة هذا التقرير، ليس أكثر من مقالٍ يعتمد على الاحتمالات التي عادة ما يبحثها التياران آنفا الذكر.