السياسة الأمريكية بين الاستراتيجية والتكتيك
تشغل انتخابات الرئاسة الأمريكية بال الكثيرين، خصوصاً في منطقتنا العربية، فالجميع ينتظر ما ستسفر عنه من نتائج وكأن عجلة السياسة الدولية والإقليمية تتوقف عن الدوران على كل المستويات حتى انتهائها ومعرفة نتائجها، وكأنها « ستسحب الزير من البير ».
نتذكر في هذه العجالة ما قاله أنور السادات بعيد حرب تشرين التي أراد لها السادات أن تكون« تحريكية » بتنسيقاته الخاصة ومحادثاته المكوكية مع وزير الخارجية الأمريكي حينذاك هنري كيسنجر حيث قال السادات ممهداً الطريق لعقد صفقة السلام المنفرد « كامب ديفيد » مع «إسرائيل» حرفياً: إن 99% من أوراق الحل بيد أمريكا، ومنذ ذلك الوقت أخذت الانتخابات الأمريكية هذه الأهمية وهذا الزخم الذي هي عليه الآن.
هنا لابد من طرح التساؤل التالي: هل من أهمية تذكر لنجاح أحد المرشحين الديمقراطي أم الجمهوري على سير الأحداث في المنطقة وعلى المستوى العالمي؟، وهل يملك الرئيس المنتخب حق تغيير استراتيجيات السياسة الأمريكية الموضوعة مسبقاً من الحكام الحقيقيين لأمريكا وهي قطعاً تروستات وكارتيلات صناعة النفط والسلاح .
الواقع الملموس يجيب أن كلا المرشحين لانتخابات الرئاسة ليسا سوى وجهين لعملة واحدة، وبالتالي غير قادرين على إحداث أية تغييرات تذكر على مجمل السياسة الأمريكية خاصة في الشرق الأوسط، بسبب الدورالذي يلعبه اللوبي الصهيوني وأداته منظمة الآيباك في تحديد نتائج الانتخابات، فالاستراتيجيات تعتبر بالنسبة لكل رئيس جديد كالكتاب المقدس لا يجوز تغييرها لمزاجه الخاص، وعلى كل تكتيكاته أن تصب في مجرى تنفيذها، والجميع يتذكر كيف سقط جورج بوش الأب عندما أعاد ترشيحه مرة ثانية بسبب وقوفه ضد منح «إسرائيل» تسهيلات مالية بقيمة 10 مليارات دولار لمتابعة بناء المستوطنات.
تفرض عدة قضايا داخلية وخارجية نفسها على الحملة الانتخابية في انتخابات الرئاسة الأمريكية ، وفي هذه الانتخابات لا صوت يعلو فوق صوت الاقتصاد بين القضايا الداخلية وتنال اهتماماً لا تقل نسبته عن 80%من اهتمامات الأمريكيين وخاصة البطالة ومستوى الفقر والركود الاقتصادي والضمان الصحي، و20%بالنسبة للقضايا الخارجية، ولا ننسى أنه في القرن العشرين فقط رئيسان اُنتخبا في ظل مستوى بطالة يفوق السبعة بالمئة.
غالباً ما تكون ملامح هذه الانتخابات قد رسمت قبل فترة طويلة من المناظرات الرئاسية التي تعقد بين المتنافسين، وفي المناظرة التي تمت بين أوباما و رومني الأسبوع الماضي على الرغم من بعض المواقف الهستيرية التي وقع فيها البعض، فإن المناظرة في حد ذاتها لم تضف أي شيء من شأنه أن يؤثر في النتيجة النهائية لهذه الانتخابات.
مما لا شك فيه أن العوامل التي شكلت المشهد السياسي الذي اتسمت به سنة 2012 أكثر أهمية من هذه المناظرة في حد ذاتها، لعل أهم هذه العوامل ذلك الذي يتمثل في الخريطة الديمغرافية للناخبين الأمريكيين، فمن جانب المعسكر الديمقراطي نلاحظ زيادة ملموسة في أعداد الناخبين الذين ينحدرون من «الأقليات»، فقبل عقدين من الزمن كانت هذه الشريحة من الناخبين تضم أقل من 20% من الناخبين، أما اليوم فإن هذه الشريحة قد تمثل 29% من الناخبين، و تشير التقديرات إلى أن أكثر من 80% من هؤلاء الناخبين سيصوتون للرئيس أوباما.
في حين إن الطبقة الانتخابية الجمهورية تتكون أساساً من الناخبين متوسطي العمر فما فوق أو المسنين كما أن الأغلبية الساحقة هم من الرجال أو التيارات المسيحية اليمينية، كما فتحت قضية «مواطنون متحدون» الباب على مصراعيه أمام مبالغ طائلة من المال السياسي الفاسد الذي سمح لبعض الأطراف بأن تملأ المحطات الإذاعية والتلفزيونية بوابل من الإعلانات الدعائية التي اتسمت في أغلبها بالسلبية وعلى سبيل المثال فإن حملة أوباما الحالية جمعت مليار دولار من أجل خوض هذه الانتخابات.
يقول الرئيس الأمريكي باراك أوباما: «منذ أربع سنوات وعدت بإنهاء الحرب في العراق وقد فعلنا، ووعدت بأن نعيد تركيز الجهود على مكافحة الإرهاب الذي كان وراء هجمات الحادي عشر من أيلول وقد فعلنا، كما وضعنا حداً للزخم الذي كان يحرك طالبان في أفغانستان، وفي عام ألفين وأربعة عشر ستنتهي أطول حرب، وسيرتفع في سماء نيويورك برج جديد، القاعدة تسير على طريق الهزيمة وأسامة بن لادن قتل»، ولكن السؤال الهام الذي يفرض نفسه هنا لو أن منافسه ماكين الجمهوري كان هو الفائز في الانتخابات السابقة أما كان ليقوم بنفس ما قام به أوباما؟، والجواب نعم وبالتأكيد تنفيذاً للإستراتيجيات والتكتيكات المفروضة عليهما.
لم تتغير الاستراتيجية الأمريكية المرسومة للمنطقة أيضاً ، فنظرية قوس التوتر الهادفة إلى تفتيت المنطقة ومقولة الشرق الأوسط الجديد يجري تنفيذهما رغم كل العقبات التي وقفت في وجههما ، وسياسة الهيمنة على ثروات شعوب المنطقة تدور عجلتها عبر كل تحرك للسياسة الأمريكية وذلك عبر المجابهة والسيطرة على كل طارئ قد يقف حجرة عثرة أمام تنفيذها علماً أن المقاومة العربية في الوقوف ضد هذه السياسة الأمريكية من المقاومة الفلسطينية إلى اللبنانية ومنذ بدء العمليات الفدائية إلى الانتفاضتين الفلسطينيتين إلى الاجتياح ال»إسرائيلي» للبنان إلى تحرير الجنوب ثم إلى حربي تموز 2006 وغزة 2008-2009 وصولاً إلى المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي لعبت دوراً هاماً في إفشالها حتى الآن، إلى أن جاءت ما تسمى الآن بـ« ثورات الربيع العربي » والتي تحاول الولايات المتحدة تحويله إلى خريف فعلي من خلال وصول قوى الإخوان المسلمين والسلفيين إلى سدة الحكم بمباركة أمريكية علنية.
أما بما يخص الموقف من إيران فلا تزال السياسة الأمريكية ساعية إلى تصوير إيران كعدو العرب الأول بدل «إسرائيل»، إضافة لمحاولة منعها من تنفيذ برنامجها النووي بحجة أنه يُستخدم لحاجات عسكرية كالسلاح النووي.
أخيراً وليس آخراً تظل قضية الدعم اللامحدود للكيان الصهيوني أحد أهم الخطوط الحمراء للسياسة الأمريكية في المنطقة، لا يحق لأحد أن يتجاوزه وكلنا يعرف أنه منذ نكسة حزيران 1967 تتلقى «إسرائيل» دعماً غير محدود منها، سواء عبر سياسة فرض الأمر الواقع من جهة أوالتملص من التعهدات الأميركية من جهة أخرى، و تهربها من أي حل حتى الحل الذي صاغته الأمم المتحدة الذي يقوم على أساس الدولتين المتجاورتين وتنصلها من الكثير من المواقف بدءاً من مواقف بوش الأب بعد مؤتمر مدريد عام 1991 إلى محاولات المفاوضات التي جرت خلال عهدي كلينتون بين باراك وعرفات قبل اتفاق أوسلو، وصولاً إلى تعهدات بوش الابن بإقامة الدولة الفلسطينية في عام 2005 ثم تعهده الثاني في عام 2008 وأخيراً وعد أوباما بالحل خلال خطابه الشهير في القاهرة. قديماً قيل « أنه وُضع ذنب الكلب 40 عاماً في القالب وبعد فكه بقي الذنب معوجاً » وهذا حال السياسة الأمريكية في منطقتنا « هية هية » كما يقول المثل العامي.