ترجمة : نور طه ترجمة : نور طه

أمريكا بعد الديمقراطية

على الرغم من الأهمية الكبرى التي يتصف بها يوم الانتخابات الأمريكية (6 نوفمبر)، إلا أن قضايا الأمريكيين الأساسية كمسألة الحرب والسلام و وول ستريت في مقابل الشارع العام غاب ذكرها بشكل كامل في هذا اليوم.

وتعود أسباب هذا الغياب إلى أغفال كل من المرشحين (الديمقراطي والجمهوري) إضافة لوسائل الإعلام الكبيرة ذكر هذه الأمور الجوهرية حيث تم الإكتفاء بمناقشة سياسات التقشف وكيفية استهداف (الدول المارقة)، ومسألة تأمين الموارد المستقبلية،  وإطلاق العنان للآلة العسكرية الأمريكية في الخارج وقريباً في الداخل أيضاً. للأسف أيها الأمريكيون فإن دستوركم وديمقراطيتكم وحقوقكم المدنية لم تعد أموراً تستحق النقاش أو حتى الذكر.

وهم الديمقراطية

لم تتجاوز نسبة المقترعين في انتخابات 2012 الأخيرة الـ(57،5%) من إجمالي من يحق لهم التصويت وفقاً لمركز الجامعة الأمريكية لشؤون الانتخابات بينما بلغت نسبتهم في الانتخابات السابقة 2008 (62.3%) و(60.4%) في 2004 أما في 2000 فوصلت إلى (54.2%). بمعنى آخر فإن حوالي 90 مليون ناخب لم يصوتوا في انتخابات 2012.

يقول كورتيس جانس – مدير مركز الجامعة الأمريكية – في معرض تعليقه على هذه الإحصائيات :

«تعد الانتخابات الأخيرة واحدة من الانتخابات النادرة التي تشهد فيها جميع الولايات الأمريكية دون استثناء هبوطاً كبيراً في أعداد الناخبين «.

من ناحية أخرى أفاد تلفزيون (برس تي في) أن «الأرقام الأخيرة تشير إلى أن 117 مليون أميركي

- أقل من 50% ممن يتمتعون بحق الإقتراع - قد شاركوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة».

أياً كان الرقم النهائي فمن الجليّ أنه عندما تصل نسبة عدم المشاركة إلى حد الـ 50% فإن هذا يعني أمراً وحيداً : تراجع كبير في الأداء الديمقراطي يقابله تعزيز كبير لمواقع الأوليغارشية الحاكمة (طبقة كبار الأثرياء).

الحلم المسروق

عرض الرئيس باراك أوباما في 4 نوفمبر 2008 مشروعاً أمام الأمريكيين عُرف حينها باسم (التغيير الحقيقي) وسَوَّقَ له باعتباره برنامجاً مضاداً لسياسات الرئيس السابق جورج بوش. لكن أوباما وفور استلامه لمقاليد الحكم في الولايات المتحدة قام باستكمال بل وتوسيع الحروب المستدامة التي بدأها سلفه، كما أبقى على معتقل جوانتانامو – سيئ الصيت – مفتوحاُ واستمرت الخروقات المتكررة للحقوق المدنية والهجمات غير القانونية على الحقوق والضمانات الدستورية في عهده هذا وازدادت هيمنة السلطات التنفيذية على المؤسسات والهيئات الحكومية كما تعاظمت بشكل ملفت عمليات الإنقاذ – المتواصلة – للبنوك المفلسة وازداد الأغنياء غنى، ناهيك عن نمو وتأصل صفة الشمولية التي يتصف بها التحالف الحكوماتي- الشركاتي الحاكم عبر إجراءات اتخذها هذا التحالف تتمثل بإنشاء شبكات تجسس ومراقبة على مدار الساعة تنتهك أبسط خصوصيات الأمريكيين عموماً. من جهة أخرى فقد تزامن تربع أوباما على سدة الرئاسة مع انطلاق سلسلة عمليات الاغتيال المخالفة للقوانين والتي تتم برعاية الدولة كما جرى استهداف جائر لنظام الضمان الاجتماعي ونظام الرعاية والمعونات الصحية والطبية.

إن صفقة أوباما «الكبرى» القادمة مع الحزب الجمهوري لا تعدو كونها مسرحية معدّة جيداً وصالحة برأي أي ناقد مسرحي لتكون معبراً واضحاً عن غياب الواقعية.

كذب أوباما

لقد أثبت التاريخ السياسي الحديث أن أسرع النصوص القانونية – كقانون المواطنة – يمكن صياغتها بين ليلة وضحاياها عبر المصطلحات كالـ( أعداء – مخاوف – تهديدات ) وبعض المنكهات كالـ( تواطؤ – أكاذيب ساذجة قديمة ومستَهلكة).

في كثير من الأحيان يتعرض الرئيس أوباما لنقدٍ شديد لأنه دائماً ما يشرف على مواضيع بالغة الأهمية ثم ما يلبث أن يعود منها بخفيّ حنين وورقة توت دون تحقيق أي إنجاز يذكر.

وهنا أرى أن هذا النقد بحاجة لتعديل ليصبح على الشكل التالي:

« في الواقع لا يعود الرئيس أوباما -هذا الجمهوري من يمين الوسط وأحد نيوليبراليّ المحافظين الجدد المتستّر بغطاءٍ ديمقراطي- بأوراق التوت لأن أوباما بحد ذاته ورقة توت تتلاعب بها القوى المتحكمة (فعلياً) باقتصاد البلاد وثرواتها وحكومتها. وهذه القوى هي الشركات المتعددة الجنسيات والشركات العسكرية الكبرى الذي كان أداء أوباما بنظرها «مُقنعاً وملحوظاً» حيث قامت سياسته على مبدأ عام هو : (إن لم يصل الزجاج حدّ الكسر فلا داعي لإصلاحه)! «

الترويكا المهيمنة

لا شك أن برامج التقشف التي سيجري تطبيقها في الولايات المتحدة والتي تندرج تحت اسم (التكيّف الهيكلي) لن تختلف نهائياً عن مثيلاتها التي سبق وطُبّقت في بريطانيا وبعض الدول الأوروبية كإسبانيا وإيطاليا و ..  والتي أدى تطبيقها عملياً إلى زيادة تدريجية في الاضطرابات الشعبية وتدهور اقتصادي متزايد وإلحاق أضرار كبيرة بالديمقراطية.

هذا وتواصل «الترويكا الأمريكية» والتي تتألف من : (شركات وول ستريت الاحتكارية – البنتاغون - الشركات الأمريكية الكبرى) حملتها الشعواء على الديمقراطية تحت ستار محاولة «تخفيض العجز الاقتصادي الأمريكي». ولم يحرك أوباما أو أي أحد من أعضاء الكونجرس ساكناً لمواجهة هذا التهديد.

وبينما كان الديمقراطيون والليبراليون وبرامجهم  يتعرضون لعملية تعمية بإشراف رئاسي، أخذت الأسباب التي تدفع بعض المجموعات اليمينية واليمينية المتطرفة ومعها بعض الأحزاب لتأييد النظام الجديد القادم بالتزايد خصوصاً أنها ستنال حصةً أكبر من كعكة الثروة الوطنية في ظلّه.

من المؤكد أن أوباما لن يتمكن من صون حقوق كبار السن والمعاقين والفقراء والعاطلين عن العمل، بيد أنه سيحقق نجاحاً كبيراً في حماية وول ستريت من الملاحقات القضائية والعمل على إثراء الأغنياء أكثر فأكثر وزيادة السيطرة الأمنية في الداخل مع توسيع الحروب في الخارج.

ومن المفارقة أن كلاً من الليبراليين والديمقراطيين قد تخلوا منذ زمن بعيد عن مواقعهم المناهضة لبوش لينتقلوا إلى دعم أعمى لسياسات وإجراءات مطابقة لسياسات (بوش – تشيني) ولكن هذه المرة تحت الراية «الأوباميّة» !!.

القوى المُغَيّبة

تعرض اليسار الأمريكي – ومايزال – لعملية تغييب قسرية وممنهجة من قبل الحكومة ووسائل الإعلام التابعة لها ومع ذلك فإنه لا يزال موجوداً وفاعلاً على الأرض. هذا وقد استغلّ اليمين الأمريكي الغياب الظاهري لليسار وقام بتحويل سياسي يميني. يُدعى باراك أوباما من قبل اليمين أنه سياسي اشتراكي مخترعين بذلك معنىً جديداً للاشتراكية !

إن الوهم السياسي الذي خلقته الطبقة الحاكمة عن وجود نظامين حزبيين مختلفين (اليسار و اليمين) لن يلبث أن يختفي سريعاً لأنه يمكننا القول وبكل ثقة إن الولايات المتحدة باتت اليوم أكثر من أي وقت آخر يمينية التوجه بشكل كامل.

مما لا شك فيه أن الأعوام الأحد عشر الأخيرة التي قضتها أمريكا بالتدخل في شؤون غيرها وغزو واحتلال الدول ذات السيادة ستنقلب عليها بحيث تصبح هي نفسها «محتلة» على قاعدة (لك يومٌ أيها الظالم).

مايكل بوتشي* : مدير تنفيذي سابق للعلاقات العامة.