ليبيا ما بعد القذافي.. دون القذافي فقط!!!
منذ حوالي الشهر خاطب سيف الإسلام القذافي كل الليبيين لينذرهم من السيناريو الأقذر علهم يقلعون عن مطالبهم بالحرية والانعتاق من «ملك ملوك أفريقيا» الذي بات القسم الأكبر من شعبه يلقبه حالياً وعلى طول الجدران بـ«قرد القرود»، معمر القذافي..!
خطاب سيف الإسلام قدم حينها وصفاً مستقبلياً للأحداث المتسارعة، حيث حذر القذافي الابن من انفلات الأمور لحرب أهلية يستتبعها دخول عسكري لحلف شمال الأطلسي ونزاع مسلح بين القبائل على ثرواتها النفطية..
اليوم ومع مرور الأيام الدامية على الشعب الليبي تبث الصور المتلاحقة الأخبار عن مفاعيل الأحداث العسكرية على أرض الواقع التي سعى إليها القذافي قبل شعبه، وتبقى خلف الكواليس صور مخفية عن الترتيبات السياسية تعرض على شكل فلاشات على خلفية الأحداث المحتدمة عسكرياً لتستقر لاحقاً كصورة نهائية تعلن عن خلق واقع جديد في الساحة الليبية، وعنوانه الأساسي «ليبيا مابعد القذافي.. دون القذافي فقط»!! ..
يكثف هذا العنوان جملة النتائج المنبثقة أو التي قد تنبثق عن مجريات الأمور الراهنة بما يتعلق بالصياغات السياسية التي تسعى الأطراف المتقاتلة كافة إلى صياغتها فوق الدماء النازفة.
اليوم تبلورت الأطراف السياسية والعسكرية المتنازعة على تقاسم تركة نظام القذافي، وهي تتمثل بالناتو والمجلس الوطني الانتقالي وبقايا النظام السابق. وهنا تجدر الإشارة بشكل صارخ إلى أن تباطؤ الحسم العسكري- نتيجة ادعاء الناتو أن مهامه الحالية تقتصر فقط على الحظر الجوي دون تفكير من أي أحد بدعم الثوار وامدادهم بالسلاح الكفيل بحسم المعركة سريعاً- لايعبر مطلقاً عن ادعاءات الناتو التزامه بنص القانون الدولي (حماية المدنيين من نيران القذافي)، مثلما لا يعبر، مثلاً، عما حاولت بعض الأطراف تبريره بوجود خلاف بين قيادة الناتو والإدارة الأمريكية بخصوص حجم دور الأمريكيين في «المعركة»، ولا حتى يعبر عما يقال اليوم عن خلافات حول حجم التمويل والتي لايمكن أن تكون إلا ادعاءات كاذبة تخفي النية الأساسية للناتو ورؤوسه التي تحاول المناورة تمهيداً لصياغة مرحلة مابعد القذافي المبنية على ضمان المصالح العليا للامبريالية أكثر مما كانت عليه..
يتمترس القذافي بكتائبه اليوم في غرب البلاد بينما يترتب في شرقها تقاسم الكعكة الدسمة، طبعاً دون أن يغيب القذافي بما يمثله من مصالح مرتبطة حتى اللحظة مع «رفاقه» في ايطاليا و«رفاق» ابنه في بريطانيا العظمى. فهذه المصالح قد يغيب عرابها السابق، معمر القذافي، لكن الواقع الحالي يشير إلى ظهور البدائل السريعة بالتشاور مع القذافي نفسه، ربما! فالمجلس الانتقالي لا يبدو اليوم في منطقه وسلوكه أكثر من سمسار مسؤول عن بيع النفط وتأمين وصوله إلى السوق الدولية دون إبداء أي شكل من المسؤولية الوطنية تجاه البلاد ومصالحها المستقبلية. كما أن هذا المجلس يترك كلاً من الثوار الذين يواجهون معمر القذافي، والمدن المستباحة بقوات هذا الأخير، لا للقدر فقط بل لواقع الضعف النسبي لدى قوات الثوار بما يمنعهم من حسم المعركة في وجه ضربات الناتو «المزاجية» وقوات القذافي الدموية.
يلهث المجلس الانتقالي للاعتراف به كممثل شرعي ووحيد، على الرغم من أنه يعجز عن تقديم أي صورة تبرر هذا التمثيل الذي كان يجب أن يبنى على التزام مطالب الشعب وتأمين دعم حقيقي للثوار على الأرض. لكن يبدو أن صلاحياته لاتخوله ذلك، لذا نسمع اليوم أنه قرر مبادلة نفط شرق ليبيا مقابل الغذاء والمعدات الطبية موحياً أن هذا أقصى مايمكن انجازه للشعب الليبي. بالطبع بني هذا السلوك من المجلس الانتقالي، الدال على عجزه أساساً، على «دوره الوظيفي» والذي صيغ بالاتفاق مع حلف الناتو الذي أراد حينها شرعنة عملياته العسكرية وتأمين استمرار النفط. فالمجلس الانتقالي لم يصغ على أساس مطالب الشعب الليبي وتأمين أفضل الأدوات لتحقيقها، وعلينا هنا أن نذكّر بوجوه المجلس الانتقالي التي لا تمثل إلا الوجوه السابقة للنظام الليبي، في وقت لا يمنعهم الانقلاب الحاصل في توجهاتهم من التواصل مع أولاد القذافي حتى اللحظة. وقد ذكرت «الاندبندت» البريطانية أن سيف الإسلام لازال يتصل بكل رموز المجلس الوطني الانتقالي معتمداً على أحد أهم المقربين السابقين وهو مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس علي العيساوي ممثل المجلس للشؤون الخارجية..
يحاول الناتو اليوم أن يوهمنا بأن «مبادئه الإنسانية» تمنعه من «استكمال مهمته بتصفية قوات القذافي الذي يستخدم أساليب إبداعية جديدة مفاجئة تتمثل في استخدام عربات مشابهة لعربات الثوار» كما أن القذافي يستخدم المدنيين كدروع بشرية.. وهنا يبدو أنه من الضروري التذكير بعمليات القوات الخاصة البريطانية التي شنت في بداية اشتعال الحراك الثوري، حيث قامت هذه القوات بتنفيذ عمليات حماية للرعايا البريطانيين وإنقاذ سريع لهم. أما الآن، وبما أن القضية تمس مدنيين ليبيين فعليهم أن يلاقو ا مصيرهم المدروس مسبقاً بين المجلس والناتو والقذافي.
يستهجن الكثيرون اليوم أن يكون التنسيق بين هذه الأطراف مبنياً على هذه الدرجة من التناغم، فالتصدعات الحاصلة بين الغرب والقذافي والمجلس لاتوحي مطلقاً بهذا الواقع، كما أنها غير مبررة للظهور على شكل مسرحي هزيل. ولكن هذا التصور له كل مبرراته عندما نعي- وعلى سبيل المثال لا الحصر- ما يعانيه اقتصاد بريطانيا، أحد صقور الحملة الجديدة، والتي تمر بأزمة حادة ترفع من وتيرة الاحتقان الداخلي، مما يستدعي تصديرها سريعاً. كما أن خسائر «بريتش بتروليوم» في خليج المكسيك تستدعي تعويضا مجدياً في ليبيا، هذه المرة.
وبالنظر بعمق في الوجوه المتصارعة اليوم نجد أن سيف الإسلام هو خليفة أبيه المربى جيداً في بريطانيا، كما نجد موسى كوسا رجل الاستخبارت وأحد المقربين الخمسة من «الزعيم» والذي قاد حملات الدم في السنين الماضية ضد الشعب الليبي وكان مسؤولاً عن تفكيك منظومة الأسلحة الإستراتيجية لليبيا، ونجده اليوم مداناً بأنه عميل مزدوج للمخابرات البريطانية (ام اي6) منذ عام 2001، حسب وصف صحيفة «صنداي اكسبريس» البريطانية. طبعاً تمر هذه المعلومات سريعاً دون التدقيق بمعانيها. كما تناسى الجميع فجأة حلف القذافي- برلسكوني.
أما قائد قوات الثورة فهو وزير الداخلية السابق يونس عبد الفتاح، وحسب ما جاء في جريدة الأخبار اللبنانية فإنه «كان يوصف بالرجل الموثوق للقذافي الذي لم يصدق انضمامه للثوار، وأعاد تعيينه وزيراً للداخلية»..
توحي بعض التحليلات اليوم أن قوات الثوار لا تحتاج إلى سلاح بل تحتاج إلى تدريب طويل، وهذا التصور يراد منه أن يكون واقع الحال اللاحق المناسب للجميع. فالمجلس الانتقالي بوصفه «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الليبي» يراد أن تستقر له الأمور في شرق ليبيا ويتكفل بتدريب الثوار على المدى الطويل، بينما سيحاول القذافي عبر قيادته لغرب ليبيا استعادة «ليبياه الحبيبة» بعملياته العسكرية غير المحسومة. أما الناتو سيؤمن استمرار تدفق النفط بالتعاون مع حكومة الشرق ويراقب شواطئ كل الليبيين حتى تظل جعجعة المعركة تصرخ لتوحي أن المولود الجديد لن يكون إلا الفوضى، ولكنها هذه المرة ليست من صلب أب «واحد أحد» هو القذافي مجهول النسب، ولكنها بآباء ثلاثة سيعملون على تربية المولود ليكون مجنوناً وعميلاً وقذراً بآن واحد ويصير نقطة الارتكاز اللاحقة لرأس الإمبريالية، أي الأمريكيين الذين وكعادتهم يستبقون التجليات الجديدة لأزمتهم القادمة بفوضى تبيح لهم كل المنطقة الصاعدة ثورياً..
ويراهن هذا التصور على أن واقع الشعوب من الممكن أن يكون رهناً لإرادة الأمريكيين فقط، وأن الذاكرة الفردية سريعة النسيان دون الانتباه إلى أن ذاكرة الشعوب الجمعية وواقعها الحالي، وإن طال مبدئياً، سينتج عمر المختار الجديد معلناً وأد ذلك المولود اللقيط..