الحرية..
الثورة الفرنسية، التي حملت الحرية إلى العالم، ولدت في 1789، أي في أواخر القرن الثامن عشر، وفي أقل من قرنين وربع إلى الآن انتقل الإنسان من التنقل على الرجلين، أو على الدواب إلى عصر الفضاء، ومن الأسلحة البسيطة إلى القنبلة النووية، ومن الكتابة بخط اليد، والطباعة الابتدائية، إلى العصر الالكتروني، إلخ، أي قطع الإنسان مسافة حضارية في زمن بسيط نسبياً تعادل اضعافاً مضاعفة مما قطعه الإنسان في آلاف السنين من عصور العبودية.
مثل هذه المقارنة البسيطة توضح أهمية الحرية للإنسان، التي لولاها بقي الإنسان متقوقعاً في كهفه.
طبعاً، الحرية الفاعلة ليست فردية فقط، فحرية الإنسان المطلقة في مرحلته الحيوانية نقلته إلى العبودية بمختلف تجلياتها عبر القرون، إن الحرية الفاعلة هي فرديةـ اجتماعية في الوقت نفسه، حيث لا معنى لحرية فردية في ظل الاستعمار، ولا لحرية فردية في ظل أنظمة عبودية طائفية أو استبدادية.
الثورات الشعبية، التي حصلت في أكثر من بلد عربي هي عظيمة وجبارة، وتدل على حيوية هذه الشعوب وعندما أزاحت مثل مبارك، أو بن علي، وعلى وشك أن تزيح أمثال القذافي، فإنها أنجزت عملاً كبيراً، ولكن لم تحل المشكلة في بلدانها. عندما تبقى رواسب النظام القديم، فإن الشعب يحتاج دفع ثمن مماثل للثمن الذي دفعه من أجل إزاحة رأس النظام.
وعندما يزيح الشعب الليبي البطل، القذافي السفاح بمساعدة الإدارة الأمريكية وحلفائها، فإن تلك الإدارة تزرع في ليبيا، من هم يماهون القذافي في العداء للشعب الليبي وفي نهبه(..) ومع إزاحة القذافي، فإن أي وضع ينشأ يكون أفضل منه تحت نظامه الدموي. ولكن هذا لا يمنع من أن ينظر المرء إلى ما هو أبعد من إزاحة القذافي.
في ظل الحرية تتوفر لدى الإنسان إمكانات لا حدود لها، ويستطيع كما دلت التجربة أن يصنع من المعجزات ما هو أبعد بكثير من حدود التصور. ولكن أين النظام الدولي، الذي يؤمن بذلك. إن النظام النهب والاستعباد القائم دولياً لا يدمر إمكانات الإنسان فحسب، وإنما يدمر الإنسان أيضاً، وليس في العالم الثالث فقط، وإنما في بلدانه المتطورة.
هل يعلم الكثيرون، أن استبياناً أجرى في الولايات المتحدة، البلد «العظيم» المتطور، بيّن أن نسبة كبيرة من العينة التي أجري عليها الاستبيان، لا تعرف من هم طالبان، الذين يحاربهم الجيش الأمريكي في أفغانستان؟ أليس هذا تدميراً للإنسان. ولكن هناك عدا التدمير المعنوي، تدمير فيزيائي للإنسان، وليس فقط بالإفقار والتجويع والحروب، وإنما أيضاً بتسميم البيئة، وجعلها تدريجياً غير قابلة للحياة.
النظام الدولي لا حيلة لنا فيه، وإنما نذكره هنا للإشارة إلى مدى الخطر الذي يمثله على البشر جميعاً، على جميع الشعوب. وجميع البلدان. وإضافة إلى الخطر، فإنه يسلب الحرية على نطاق كوني. إن الهيمنة الدولية هي سلب لحرية من يعيشون في ظل الهيمنة.
ورزمة الإفقار والتجويع والحروب لا تسلب الإنسان حريته فقط، وإنما أيضاً حياته.
والعالم الثالث الذي تحرر سياسياً بعد الحرب العالمية الثانية فقد، ويفقد، حرياته الفردية والاجتماعية في ظل النظام الدولي، الذي خلق الأنظمة الاستبدادية ومن جهة، والطائفية، من جهة ثانية، والأولى والثانية تقيمان نظام الاستعباد المكمل للنظام الدولي.
ما الذي يمنع البلدان الثالثية أن تتنفس الحياة؟ بلد مثل مصر، إضافة إلى ثرواته الهامة، هناك ثرواته التي لم تكتشف بعد. يستطيع أن يضمن لشعبه وفرة تحميه من الفقر، ومن الجوع، ومن السكن في القبور، وبدلاً من ذلك يقوم نظامه فقط بالقمع والنهب. لماذا؟ لو انتهجت إدارته سياسة وطنية، لحظيت باحترام كبير من الشعب.
المرحوم عبد الناصر، بسياسته الوطنية، استحق رغم الأخطاء ليس فقط احترام الشعب المصري، وإنما أيضاً احترام الشعوب العربية. والأنظمة الاستبدادية لم تفهم ذلك الدرس الكبير، ولم تفهم أيضاً الدرس الآخر، بأن من يخسر شعبه، يخسر أيضاً الحماية الدولية، التي يعتمد عليها.
لقد تخلت الإدارة الأمريكية بخشونة، عن ماركوس، وعن شاه إيران وعن سوهارتو وعن بينوشيت، واليوم عن مبارك وعن بن علي، وعن القذافي وأيضاً، ولو بأسف، عن علي صالح. درسان كبيران: الاحترام أو النبذ.
الحرية في العالم الثالث ليست معوقة فقط بالاستبداد، أيا يكن، وإنما أيضاً بالنظام الدولي، وبضعف التطور. كلا النظام الدولي والاستبداد خلقاً إنساناً بائساً غير قادر بالكاد على شيء.
إسرائيل عقدت مع روسيا (أخبار 29/3/2011) اتفاقات حول تطوير التعاون في مجال الفضاء. بينما الإدارات العربية تفكر في كيف يمكن أن تطور أعمالها القمعية. تطوير في مجال الفضاء، وتطوير في مجال القمع. كلاهما تطوير.
الشعوب العربية فاقدة حرياتها الاجتماعية والفردية، وهي بذلك فاقدة كل شيء وفي ذلك مأساتها الكبرى