تكتلات المشهد «مصالحة» إقليمية أم توريط مصري؟
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ارتكز بناء العلاقات الإقليمية سياسياً واقتصادياً على أساس الوزن النوعي للولايات المتحدة، كقوة أساسية هي الأكثر تأثيراً في واقع الإقليم. ومن الممكن اليوم التنبؤ بتغير بنية هذه العلاقات، اعتماداً على التغير الجاري في العلاقات الدولية وموازين القوى فيها.
تبرز السمة الأساسية للتغير الحاصل في العلاقات الدولية بالتراجع التاريخي المستمر للولايات المتحدة، وفقدانها للتحكم والقدرة على فرض تأثيرها على الملفات الكبرى، كما هو الحال في كل من الملف النووي الإيراني، والملف السوري، مما يفرض بدوره على دول المنطقة إمعان النظر إلى العلاقات البينية في ضوء الواقع والموازين الجديدة.
فادي خضر
واحد من مؤشرات التغيرات الجديدة، يتبين في التقارب السعودي التركي مؤخراً، الذي قد يصل حسب اعتقاد كثير من سياسيي البلدين، إلى حد التنسيق الاستراتيجي، رغم الخلافات التفصيلية المتعلقة بملفات المنطقة، كالعلاقة مع إيران أو الموقف من تنظيم «الإخوان المسلمين».
من هذا المنطلق، فإن مصر ليست بعيدة عن الحركة الإقليمية الناشئة الجديدة، بل هي في صلبها، لما لها من وزن إقليمي ودولي كبير كامن، كما أن شكل تحالفاتها اللاحقة سيكون له أثر كبير على مجمل المشهد الإقليمي الآخذ بالتبلور، فأين تجد مصر نفسها اليوم من التموضعات الجديدة؟
تعقيدات العلاقة
المصرية- التركية
عند أي منعطف إقليمي ناجز أو محتمل، تعيد القوى الإقليمية مراجعة حساباتها على أساس هذه المتغيرات الجديدة، فتركيا والسعودية اتجهتا إلى تسريع التكتل بينهما، بعد إشارات ضمنية «لكن واضحة» من حليفهم الأمريكي، تفيد بأنه لا عودة عن رفع العقوبات عن إيران، ولا عن الحل السياسي في سورية.
سرعة الانعطاف الأمريكي عن السياسات السابقة في المنطقة، تبعاً للمصالح الاستراتيجية الأمريكية، أثر على القوى الأشد التصاقاً بها، وتحديداً السعودية وتركيا، اللتان بقيتا شبه وحيدتين، إن صح القول، وسط دوامة من الملفات المشتعلة، والتي تم رسم حدودها العامة دولياً، وبقيت الهوامش الثانوية لتجاذبات القوى الإقليمية، بينما لعبت محاولة القفز المصري المبكر من المركب الأمريكي، عبر ضرب «الإخوان المسلمين»، الذراع الفاشي لقوى رأس المال المالي الإجرامي، دوراً هاماً في احتمال استعادة قدرة مصر على البدء مبكراً بالعمل على صياغة علاقاتها الدولية من جديد. وهذا لا يعني حكماً أن مصر أنجزت حتى اليوم مهماتها الخارجية المتعلقة بأمنها القومي، وشبكة علاقاتها السياسية- الاقتصادية في المنطقة، ولا يعني أيضاً خروجها من دوامة التغيرات الإقليمية بصورة واضحة المعالم، فالبحث عن دور ريادي لمصر منوط بوضع القوى الوازنة الأخرى وطبيعة حركتها «والإشارة هنا إلى تركيا وإيران» التي تؤكد الوقائع كما جميع الدراسات إلى بداية تحول الأخيرة إلى لعب دور مهم ومؤثر في العلاقات الدولية مستقبلاً.
بمعنى آخر، فإن مصر التي يفترض بها أن تعمل بشكل حثيث على بناء علاقات مهمة مع القوى الصاعدة عالمياً، وفي مقدمتها روسيا، يبدو أنها ترى نفسها اليوم بحاجة إلى البحث عن نمط العلاقات الأقرب ألا وهو العلاقات الإقليمية المباشرة. وبحصر الخيارات الأولية أمام مصر، تظهر السعودية القريبة وتركيا البعيدة، كقوى إقليمية تشترك في منع إيران عن حيازة النفوذ الإقليمي الأكبر في المرحلة المقبلة، لذا، تستغل السعودية علاقتها الجيدة حتى الآن مع مصر، في اللعب على الخيارات المصرية المقبلة، بتسويق الجانب التركي كشريك في تكتل إقليمي يحفظ إلى حد ما «التوازن» مع إيران.
لكن مستوى الصدام التركي- المصري، إثر خلع «الإخوان المسلمين» عن السلطة قبل أكثر من عامين، وصل إلى حدود معقدة تصعب المهمة السعودية في التقريب المفترض بين الجانبين المصري والتركي.
الضغط السعودي..
والفتور المصري
على أرض الواقع تعمل السعودية على فكرة استغلال انعقاد مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي في تركيا أواسط شهر نيسان المقبل، لـ«تذليل العقبات» أمام التقارب المصري- التركي، لكن حتى الآن، تبدو مصر أشد تمترساً خلف موقفها اتجاه «الإخوان»، كخيار استراتيجي مضمونه أن إبعادهم عن الحياة السياسية المصرية، قرار دولة يأخذ بعين الاعتبار منظومة الأمن القومي داخلياً وخارجياً كأولوية وطنية، إذ عمل «الإخوان» أثناء وجودهم في السلطة، وبعدها على تهديد الأمن القومي لمصر، كورقة مساومة وضغط سياسية تضع مصر في مهب الحريق الإقليمي في شرقها وغربها.
وحتى الآن، يبدو أن مصر تتعامل مع الضغوط السعودية عليها في الاتجاه التركي ببرود يأخذ بعين الاعتبار ضعف موقف حكومة «العدالة والتنمية» داخلياً وخارجياً، على أن تراقب مصر عن كثب تحركات تركية تحاكي شروطها في إتمام المصالحة المفترضة.
وفي هذا الصدد، تقوم تركيا بتحريك المياه الراكدة ولو قليلاً، عن طريق تصريحات وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، الذي نوه مؤخراً إلى «أهمية دور مصر القوية للمنطقة بأسرها»، مشيراً إلى أن حضور مصر اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في اسطنبول «يجب فهمه على أنه مشاركة في اجتماع دولي، وأن مسؤولي البلدين يلتقون في الكثير من المنتديات الدولية، ولا مانع من إجراء مباحثات ثنائية».
وتأتي هذه التحركات التركية الخجولة بالتزامن، مع إعلان صريح من جماعة «الإخوان» نيتها تفعيل اتصالات المصالحة مع الدولة المصرية، هذا الإعلان الذي نقله مدير مركز «ابن خلدون للدراسات الإنمائية»، سعد الدين ابراهيم، أثناء وجوده مؤخراً في اسطنبول، وهي المبادرة العلنية الأولى، بعد «مبادرات الوساطة» التي كان آخرها عمل القيادي في حركة «النهضة» التونسية، راشد الغنوشي، بتحريك «وساطة» سعودية لإطلاق «المصالحة»، في منتصف العام الماضي.
لكن الصمت الحكومي حيال التحركات التركية والإخوانية الأخيرة يعقد المشهد أكثر، وكأن الجانب المصري الذي يبدو أنه راغب بتكوين شبكة علاقات إقليمية قوية، والحذر في الوقت نفسه من سلوك «الإخوان» والنوايا التركية، يمسك بإحكام فكرة التكتلات الجديدة، ربما بحكم الموقع الإقليمي الأفضل نسبياً مقارنة بالسعودية وتركيا الأشد رغبة بإقامة هكذا تكتل، تاركاً الاستمهال في تبيان المواقف من تركيا و«الإخوان»، إلى حين انعقاد مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، فيما لو استطاعت المرونة التركية تمهيد الطريق أمام فرصة التقارب المنتظرة.
البحث عن النطاقات الآمنة
بالنظر إلى التطور المستقر في العلاقات الروسية- المصرية، بوصفها «توجهات مستقبلية ثابتة» معلنة من القيادة المصرية. فمصر الباحثة عن الاستقرار الإقليمي الذي يلعب فيه التقارب مع روسيا جزءاً مهماً منه، تجد نفسها مضطرة أيضاً إلى الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بتحالفاتها الإقليمية اللاحقة والأكثر ثباتاً، في مرحلة يغدو فيها الخروج الأمريكي من المنطقة حقيقة مرئية، والسعي لحل أكثر الملفات تأزماً كما في سورية واليمن أقرب من أي وقت مضى.
أي أن التحالفات التي تلت موجة الحراك الشعبي الثانية في مصر، والتي لم يظهر فيها بعد التراجع الأمريكي تماماً، سمحت بإقامة علاقات جيدة مع الجانب السعودي، والتي هي «طارئة» في تاريخ العلاقات بين البلدين، لكن مصر المعتادة على أن تكون طرفاً رئيسياً في إمساك زمام المبادرة الإقليمية، تدرك أن نطاق علاقاتها الأهم هو في الاقتراب من منظومة «بريكس»، وإقليمياً يكمن النطاق الأهم في شمال أفريقيا وسورية، اللتين باستقرارهما فقط، تسير مصر إلى الأمام في مهمة الحفاظ على أمنها القومي، وتكوين شبكة العلاقات السياسية-الاقتصادية الأساسية لاحقاً.