زيارة أردوغان.. بين حصان طروادة وحمار الأطلسي
جاء أردوغان إلى القاهرة. أحيط بهالة واسعة من الترحيب والاطراء من الغالبية الساحقة من النخبة، ومن الإخوان والسلفيين، ومن كل أجهزة الإعلام تقريباً..
استوقفتني صورة جمعت بين أردوغان وعصام شرف.. فيها بدت نظرات عصام شرف رئيس وزراء مصر(!) بلهاء، وابتسامته بلهاء، وجلسته بلهاء، وكأنه يجلس في بحيرة من البلاهة تغمره أمواجها المتلاطمة. بينما كانت نظرات أردوغان وجلسته كنظرات ثعلب يتأهب للقنص، كان كسلطان عثماني متنمر من سلاطين القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
طوال أربعة قرون رزحت بلداننا العربية تحت احتلال عثماني فاق الرومان في قسوته وتخلفه وظلاميته وجشعه وظلمه الاجتماعي، وما اتصف به من استبداد ونهب. وجرى على يد هؤلاء الطغاة العثمانيين تدمير شامل للحضارة العربية الإسلامية، بما أدى إلى دخول منطقتنا العربية إلى عصر من الانحطاط لا مثيل له، وإلى تمييع الوطنيات العربية تحت شعار الوحدة الإسلامية، ورسخ ما نعاني منه حتى الآن من أساليب حكم استبدادية، وصادر التطور الحضاري لأكثر من أربعة قرون، وكرس الجمود الفكري بالتحول من العقل إلى النقل.
التاريخ موصول بالحاضر:
منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية التركي للحكم (وهو فرع الإخوان في تركيا)، نشطت في مصر والعالم العربي عملية ترويج للعثمانيين الجدد وللخلافة بخطاب موجه إلى عواطف وغرائز البسطاء. وهى عملية قادها اإاخوان والسلفيون، في ظل الأوضاع المزرية لنظم الحكم العربية وتردي أوضاع الشعوب من ناحية، ونمو نزعة توسيع النفوذ التركي في العالم العربي من ناحية أخري. وذلك بالرغم من تمسك تركيا بدورها في اطار الاستراتيجية الأمريكية، وتمسكهم بمحاولات دخول الاتحاد الأوربي.
مع بدء الثورات العربية اتخذت مشيخات النفط في الخليج مواقف معادية للثورات بشكل مباشر أو ملتو غير مباشر. وهو ما صادر على امكانيات هذه المشيخات على التأثير الحاسم، وانحصر دورها في مجرد التمويل ونشر التضليل إعلامياً. وهنا أصبحت تركيا هي الأكثر ملاءمة وقدرة على لعب دور في المنطقة لحساب الولايات المتحدة وحلف الأطلسي والكيان الصهيوني، وتحولت إلى رأس الحربة الجديد الأكثر جاذبية في الحلف الأمريكي– الصهبوني– التركي– السعودي، القائم واقعياً وإن بدون إعلان، من ناحية، ولتحسين شروط وجودها وتعظيم استفادتها عبر نفوذ ووزن اقليمي على حساب العرب وخاصة مصر وكذلك إيران من ناحية أخرى.
واستخدمت تركيا سيناريو قطر نفسه أثناء حرب تموز 2006 المجيدة التي خاضها حزب الله ضد الكيان الصهيوني لتكتسب المصداقية التي حصلت عليها قطر (وانكشفت مؤخراً) باستغلال حادث السفينة مرمرة لتفتعل معركة مع الكيان الصهيوني لم تمس الأسس الراسخة للعلاقة الاستراتيجية الجوهرية بينهما، واضعة شرطي التعويض المالي والاعتذار. ولكنها لم ترتق إلى مستوى قطع العلاقات مثل دولتي فنزويلا وبوليفيا بسبب العدوان على غزة. ومثل هذه الألاعيب واردة في العمليات السياسية الكبرى والمعقدة، خصوصاً في ظل الاندماج الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وكذا دور تركيا في الأطلسي النابع من وجودها كمكون فاعل داخل الاستراتيجية الأمريكية.
ولعلنا لم ننس ما أقامته تركيا من علاقات مع سورية في الأعوام الأخيرة، ثم دورها الراهن في سورية بالتدخل العلني لتأجيج الصراع هناك..
إن التوجه الحاكم في المشروع الأمريكي في ظل أزمة النظام الرأسمالي التي تتعمق هو حلها من خلال الهيمنة على الإقليم. ويتم تقديم النموذج التركي للعرب في إطار تسييد تيار الاخوان المسلمين الحامل لمشروع الاقتصاد الحر التابع الضامن لتحقيق المشروع الأمريكي. رغم أن هذا النموذج التابع سوف يلحق بالأصل الامبريالي المتبوع الموشك على الانهيار، ولن تصمد تركيا التي صعدت ديونها من 70 مليار دولار قبل حكم اردوغان إلى 570 مليار دولار الآن، إذ سرعان ما تنفجر الفقاعة، وتتحطم (الفترينة) التي أقامها الغرب الامبريالي في تركيا لجذب العرب إلى هذا النموذج..
لقد وصف داود أوغلو وزير خارجية تركيا ومهندس صياغة الدور التركي بأن تركيا «دولة أوربية آسيوية بلقانية قوقازية– شرق أوسطية– متوسطية» وبناءً على هذا التوصيف يتحدد الدور، لذلك فإن الخطر الماثل من تركيا الآن، ومن تحركاتها في العالم العربي، والذي لا يمكن أن يستوعبه عصام شرف أو الغالبية الساحقة من النخبة السياسية المصرية يتمثل في الآتي:
أن مصر كانت دائما ضد الدخول في أحلاف عسكرية، وهو أمر يطبع السلوك المصري حتى في فترات الضعف والوهن الشديد. لذلك فإن الخطر الأول الماثل أن المسعى التركي هو لإحداث جسر ينفذ من خلاله الأطلسي للهيمنة الكاملة على المنطقة، خصوصاً وأن أول مؤتمر لهذا الحلف العدواني والمعادي لشعوبنا في الاقليم تم انعقاده في اسطنبول عام 2004 بمشاركة كل دول الخليج. حيث دخلت كلها كأعضاء مراقبين في الحلف باستثناء مشيخة آل سعود ومشيخة عمان. وفي عام 2005 انعقد المؤتمر الثاني للحلف في مشيخة قطر. وتجلت آثار ذلك في تدخل الأطلسي عسكرياً في ليبيا بمشاركة قطر والإمارات. كما أن تركيا تلعب دورا محورياً في توسيع الحلف شرقاً وجنوباً (أي خارج مجاله في أوربا). وقد تجلى ذلك في سماح تركيا منذ أسابيع بوضع محطة انذار للحلف فوق أراضيها، ترتبط بمنظومة الانذار المبكر الأمريكية في الولايات المتحدة، وبمحطة الإنذار المبكر البريطانية شمال بريطانيا، وبمحطة الإنذار المبكر الأمريكية– الإسرائيلية في صحراء النقب بفلسطين المحتلة. وهي بالتالي موجهة ضد كل دول الإقليم وقواه، خاصة إيران ومصر وحزب الله.
الخطر الثاني أن يكون الدور الاقليمي التركي في خدمة مشروع «وحدة البحر المتوسط» أي ساحله الشمالي الأوربي وساحله الجنوبي والشرقي (العربيين). ومن شأن ذلك عزل مصر عن افريقيا وعن البلدان العربية غير المتوسطية. أي تقسيم العالم العربي ويدمج الكيان الصهيوني ويعطيه الدور القيادي في نظام اقليمي جديد على أشلاء النظام الاقليمي العربي. الذي نرى فيه رغم وهنه إطاراً يجمع البلدان العربية لحين إعادة بنائه بعدما هلت إرهاصات تغيير الواقع العربي رغم مقاومة القوى المضادة للثورة. ويكرس هيمنة مطلقة للغرب الامبريالي على بلداننا.
لقد جاء أردوغان إلى مصر تحت لافتة فتح حوار استراتيجي معها. ورغم أنه يحمل على أكتافه كل ما سبق وغيره الكثير، فإن الأضاليل لا تزال تروج له. والمسرحيات الساقطة المليئة بالأكاذيب تعرض ليل نهار، بهدف جعل النموذج التركي أكثر جاذبية أمام القوى الليبرالية والعلمانية واليسارية. مثل الغضب المزعوم من بعض قادة الاخوان عن تأييده للعلمانية. وقد سبق أن ادعت الحكومة التركية أنها كانت تعارض تعيين أمين عام حلف الأطلسي الحالي بسبب أنه من الدانمرك، وهي الدولة التي نشرت فيها الرسوم المسيئة للرسول. في حين أن الاعتراض في حقيقته بسبب أن الدانمرك سمحت لحزب العمال الكردستاني باقامة قناة تليفزيونية ناطقة باسمه، وهو ما يبين أكاذيب وأضاليل أردوغان وحكومته.
لقد روجت للزيارة ولأردوغان القوى المستفيدة سياسياً واقتصادياً، أي الإخوان والسلفيون وعصابات رجال الأعمال خصوصاً المستوردين والمصدرين منهم. وفي إثر هؤلاء جميعاً سارت قطاعات عريضة من النخبة السياسية، لتمارس عمدا أو نتيجة للجهل خداع الشعب المصري وخصوصاً شبابه النقي والثوري المناضل من أجل الخلاص.
لقد أصابنا الملل من أولئك الذين يشعرون بالدونية أمام الغرب وكل ما هو خارجي. والذين يروجون تارة للنموذج الماليزي، ثم للنموذج التركي. ولم يفهموا أن النموذج الرأسمالي التابع هو السائد في تركيا وماليزيا بقدر من التحسينات الشكلية التي لن تكون قادرة على ادامة استمراره. وأننا عانينا معاناة قاتلة من النظام الرأسمالي التابع في مصر بعد أن تمت تصفية نموذجنا بواسطة الانقلاب المضاد للثورة عام 1971. وأننا قادرون على بناء نموذجنا الخاص المتخلص من أية عيوب أو ثغرات أو أخطاء تمت في الماضي.
أسطورة يونانية قديمة عن (حصان طروادة) الخشبي الذي حمل جنود الاغريق إلى داخل طروادة الحصينة بالخديعة. لكن الخديعة كانت من الاغريق أنفسهم. ذلك بعكس ما تفعله تركيا الآن، التي تعمل لحساب سادتها الأمريكيين والأطلسيين، بما يجعل دورها بمثابة «حمار الأطلسي». فهل ندرك المخاطر ونقاومها؟