مشاهد أُولى من «الربيع العربي»
المحامي جاسم المطوع المحامي جاسم المطوع

مشاهد أُولى من «الربيع العربي»

أُسدل الستار على المشهد الأول للأحداث العاصفة في الوطن العربي بإسقاط عدد من الرؤساء منهم من قتل فتكا ومن يقبع في السجن على سرير المرض ومن لجأ إلى الجوار ومن بقي في بلاده مكابرا بانتظار المشهد التالي. كان المشهد قصيرا، مثيراً وصاخباً استخدمت فيه صنوف الأسلحة من الكلمة إلى مسيلات الدموع والبنادق الآلية فصواريخ كروز والقذائف «الذكية» والبوارج والطيران الحربي. أبطال المشهد  كُثر. الجماهير الكادحة من العمال والفلاحين المسحوقين بالفقر والبطالة والحرمان من أبسط مقومات الحياة، وتنظيمات ارتبطت بمصالح هؤلاء. شباب يفترض أنهم ثروة الأوطان ومستقبلها جرى تهميشهم مادياً وروحياً إلى درجة اليأس. الطبقة الوسطى التي جرى تفكيكها ورمي غالبيتها في أحضان الفقر والمديونية. البرجوازية الوطنية التي انكشفت أمام طغيان رأس المال العالمي. جيش من المثقفين ورجال العلم والفن والإعلام الطامحين للحرية والعدالة. العسكر ورجال الأمن. القوى الإجتماعية والإقتصادية المهيمنة والطفيلية. ممثلو الإحتكارات المالية والصناعية الأجنبية والبترودولار. وسائل الإعلام التي غيرت مفهوم الإعلام لتكون طرفاً في المشهد. جيش من حثالة المجتمع واللصوص. المجرمون الذين جرى إخلاؤهم من السجون. أحزاب ومؤسسات مدنية من كل لون، محلية الصنع ومستوردة، ورجال دين، وأناس تخرجوا من ساحات القتال في أفغانستان وباكستان والبوسنة. دول كبرى وصغرى، غنية وفقيرة وإتفاقات سياسية واقتصادية ونفطية سرية وعلنية شرعنت تقاسم الثروات. كان المشهد قصيراً ولكنه مزلزل اختلفت دمويته من بلد إلى آخر وفقاً لمستوى التطور السياسي والإجتماعي وقوة كل طرف والتقاليد وحجم المال المستثمر.

انزاح الستار عن المشهد الثاني. رؤساء جدد، أحزاب سياسية تكاثرت كالفطر، حرية تعبير، صناديق اقتراع، مشاريع دساتير جديدة. لكن الدماءلا تزال تنزف، الشعب أصبح طوائف ومذاهب وقبائل. أكثريات دينية وأقليات، لغة القتل والرصاص أصبحت جزءا من حرية التعبير فانتشر السلاح ويجري تصديره إلى دول الجوار لنشر الصحوة الإسلامية وتأسيس إماراتها.. يحاكم الفن والثقافة وتنهب المتاحف وتحرق. ملايين من المحبطين والتائهين والمصدومين بواقع الحال، والعاطلين الجدد ومصانع تُغلق وسياحة تحتضر ورسُل الاحتكارات المالية من صندوق النقد والبنك الدوليين يلتفون حول الأوطان كالضباع حول الفرائس. سوداويٌ هو المشهد لكنه سيطول وسيكون أكثر إثارة ومادةً دسمة للمراقبين والمحللين لأنه مخاض عسير ينتظر فيه كل طرف مولوده.

 هذا الذي سمّي ربيعاً عربياً يراد له أن يكون مطية لترتيبات إقليمية ودولية لنظام جديد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يقوم على تحالفات منها القديم ومنها الجديد بين الطامحين إلى السلطة برداء الدين وأنظمة تراهن على بقاء مصالحها بالتنازل للقادمين الجدد ومنظومة الإحتكارات العالمية المنفلتة للاستحواذ على ثروات المنطقة وتوظيف موقعها للإنقضاض على طرائد جديدة في كل الاتجاهات. أما الديمقراطية والحلم بالعدالة الإجتماعية الذي قاد الملايين الى الشوارع والميادين وتخضب بدمهم فإنه ما زال بعيداً ودون تحقيقه سنوات من التضحيات الجسام والنضال الشاق في سبيل حريتهم وتقدمهم الإجتماعي ضد قوى أكثر شراسة تحاول دفع المجتمع وقواه الحية وراء السراب والمجهول مسلحة بالديماغوجية والشعارات النارية والوعود الكاذبة. فحين يدّعي الإخوان في مصر أن قرار تقديم نائب المرشد العام خيرت الشاطرمرشحاً لهم للرئاسة إنما يهدف «للتصدي للتهديد الحقيقي للثورة والديمقراطية « التي وقفوا ضدها في البداية وامتطوا صهوتها في النهاية، فإنهم يمارسون أسوأ أشكال الديماغوجية والتضليل السياسي. و يضاهي هذا التضليل إدعاءات الإسلاميين الطنانة بممانعة الدور الأمريكي واتفاقية «كامب ديفيد «في الوقت الذي يجمع فيه المراقبون على أن هذا الترشيح جاء بقرار أمريكي -إقليمي يقف إلى حدٍّ بعيد وراء نجاحات الإسلاميين في مصر وليبيا وتونس والمغرب ويؤازر الإخوان في سورية وغيرها من البلاد العربية.

و تلقي صحيفة «نيويورك تايمز» الضوء على بعض الحقائق التي تدعم تصورنا هذا فتقول إن «صانعي السياسة الأمريكية الذين كانوا يخشون الإخوان في يوم من الأيام، يرون فيهم اليوم حليفاً لا مفرّ منه ضد غلاة المحافظين في مصر» ! وتنقل عن مسؤولين في وزارة الخارجية الإمريكية أنهم «لم ينزعجوا من تراجع الإخوان عن وعدهم بعدم تقديم مرشح رئاسي، بل إنهم يشعرون بالتفاؤل»  وتضيف أن المرشح الإخواني خيرت الشاطر «التقى تقريباً كلّ المسؤولين الإمريكيين الكبار في وزارة الخارجية والكونغرس الذين زاروا مصر مؤخراً. وهو على إتصال مستمر مع السفيرة الإمريكية في القاهرة آن باترسون» وأن المسؤولين الأمريكيين أشادوا بإعتداله وذكائه وفعاليته «في حين أن صحيفة الشرق الأوسط أوضحت الأمور بجلاءٍ أكثر إذ نقلت عن مصادر إخوانية» أن الشاطر «ناقش قرار ترشحه للرئاسة مع السيناتور الأمريكي جون ماكين قبل شهرين، وأن الأخير أكد له عدم ممانعة الإدارة الأمريكية تولي إخواني للرئاسة، وأن قوى دولية رئيسية تضغط على المجلس العسكري في اتجاه تسليم السلطة للمدنيين وأن إتصالات عديدة جرت بين الإخوان والمجلس العسكري وقوى إقليمية ودولية لترتيب إجراءات نقل السلطة». ووفقاً للمصدر نفسه فإن زيارة الشاطر إلى بعض الدول الخليجية كانت لتأمين حزمة مساعدات إقتصادية في حال «وصول حكومة أو رئيس إخواني للسلطة في مصر». وبعد إعلان ترشيحه التقى الشاطر وفودا من الكونغرس الأمريكي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري و سفيرة هولندا وممثلي بنك «بي إن بي باريبا» ومجموعة «جيه مورغان» ومؤسسات إقتصادية عالمية «لبحث إمكانية التعاون بين مصر والمؤسسات المالية الدولية». هكذا تكون الطبخة قد اكتملت بالإتفاق على تسليم مصر للإخوان وحلفائهم من السلفيين ومراكز القوى في النظام من رجال الأعمال الطفيليين والفاسدين الذين ساهموا في جر بلدانهم إلى هذه الأوضاع الصعبة. في حين أن الغالبية الساحقة من القوى السياسية من العلمانيين واليسارين والليبراليين والأزهر الشريف والكنيسة القبطية ومنظمات المجتمع المدني تقف ضد الهجمة الإخوانية على مراكز السلطة الأولى في الدولة بمشروعهم الديني الأصولي.

لقد جرت محاصرة التطلعات المشروعة لشعوب المنطقة وتجييرها لمصلحة مشروع «الخلافة» أو «الشتاء الإسلامي» الذي بشر به إسماعيل هنية أو «الصحوة الإسلامية» حسب خامنئي.

 فالأمر سيّان لأن المضمون واحد بعد الوصول المتزامن للإسلاميين إلى السلطة حتى في الدول التي لم يكن لهم فيها ثقل يذكر.

هذا المشروع الذي ظاهره ديني وفحواه نظام اقتصادي ليبرالي أدت تداعياته الكارثية إلى إفقار الملايين من الناس وسمح بالسطو على المال العام بالخصخصة والتحايل وكان السبب في خروج هذه الملايين لإسقاط انظمة الفساد والإستبداد. ومن المؤكد أن حمَلة الفكر الإقصائي الإستبدادي لا يستطيعون قراءة التاريخ لا البعيد ولا القريب ويسيرون على خطا من سبقوهم وبأدوات القمع والمنع ومصادرة الحريات نفسها، معتقدين خطأً بأن من صوت لهم من المحرومين قد حرر لهم صكاً بسلب إرادته وقطع رزقه وإغلاق نوافذ الحرية في وطنه. أما أولئك المخططون للزج بالمنطقة في أحلاف ونماذج سياسية وإقتصادية تخالف إرادة شعوبها في التطلع للحرية والتقدم الإجتماعي فهم واهمون.فالحراك السياسي لن يتوقف عند انتخابات رئاسية أو برلمانية. إنها صيرورة مستمرة تتضح معالمها وأبعادها الإجتماعية بالممارسة ومع سقوط الأقنعة والشعارات الزائفة.