حقوق الإنسان: تركيا ليست أستاذاً جيداً لسورية
عبد الإله بلقزيز عبد الإله بلقزيز

حقوق الإنسان: تركيا ليست أستاذاً جيداً لسورية

لا تستطيع تركيا أن تتحدث طويلاً، وبلغة مبدئية، عن أوضاع حقوق الإنسان في سورية دون أن يستغرب ذلك الناس. قد يصدّقها من لديه مصلحة في نتائج ما تقوله، ولكن أكثر الناس ـ ومنهم أتراك ـ يعلمون أن الحرص على حقوق الإنسان آخر ما يمكن أن يشغل النخبة الحاكمة في أنقرة. 

من لديه مشكلة قومية ومأساة إنسانية نازفة في بلده، مثل المشكلة الكردية، لا يعرف لها من طريقة للمعالجة سوى هضم الحقوق القومية لملايين الناس، وعدم الاعتراف لهم بخصوصياتهم الثقافية واللغوية ناهيك بالقومية، وقمع حركتهم الوطنية بالعنف المسلح بدعوى مواجهة «الإرهاب»، لا يملك حقاً أخلاقياً في البكاء على أطلال حقوق الإنسان المنتهكة في سورية. ما يفعله النظام السوري بمواطنيه المدنيين ـ غير المسلّحين ـ شنيع ومُدان، لكن ما يفعله النظام التركي بعدد كبير من المواطنين الأكراد أكثر مدعاة إلى الاستشناع والإدانة، وهو، في كل الأحوال، واحد من الأسباب التي منعت تركيا من الانضمام إلى «الاتحاد الأوروبي»، على الرغم من كل الجراحات التجميلية التي خضعت لها صورتها، بمساعدة الأصدقاء الأميركيين، في السنوات العشر الأخيرة!

لم تفكر تركيا، مثلاً، في مأساة حقوق الإنسان في ليبيا طيلة حكم النخبة القائمة في أنقرة، وحين كانت طائرات القذافي وكتائبه الأمنية تحصد أرواح آلاف الليبيين في بنغازي، ودرنة والبيضاء والبريقة والزاوية ومصراته... وظلت تدعم نظام العقيد وتُسنده إلى أن تبين لها الأفق المسدود لسياستها، فاضطرت مرغمة لمجاراة الأوروبيين. كانت المصالح عندها أهم من دماء الليبيين المهدورة بغير حق، ولم تكن لتجد حرجاً أخلاقياً في التغطية على جرائم نظام طرابلس ما دامت المصالح محفوظة! أما حقوق الإنسان، فلتذهب إلى الجحيم، إن كان لها أن تعارض المصالح القومية التركية. وهي، في الأحوال كافة، مقبولة ومرغوب فيها، إن كانت مطية مريحة لتلك المصالح: تركبها نحو الظفر بالبغية.

تتكلم تركيا الأردوغانية، في شأن حقوق الإنسان، لغة أميركية صرفة. وليس مرد ذلك إلى أن «حزب العدالة والتنمية» الحاكم حزب موال لأميركا ومرضي عن إسلامه، كما كان يتهمه الزعيم الإسلامي التركي الراحل نجم الدين أربكان، بل لأن منطق مصالح نخبتها الحاكمة اليوم يقضي باستخدام ورقة حقوق الإنسان لتصفية الحسابات مع خصوم إقليميين، ولدعم حركات سياسية من السلالة الإيديولوجية والسياسية عينها للوصول إلى السلطة بأي ثمن. ليست حقوق الإنسان في جملة المبادئ الحاكمة للسياسة التركية، تماماً كما هي لا تحكم السياسات الصهيونية والأميركية، بل هي في جملة أسلحة الضغط السياسي المستعملة بانتقائية مفضوحة وبمنطق المعايير المزدوجة.

والأمر الأدعى إلى الغرابة أن تستسهل تركيا أمر التدخل المعلن في شؤون سورية الداخلية، وأن لا يتحرّج رئيس وزرائها في القول إن الأوضاع في سورية جزء من الأمن القومي التركي! وإذا صرفنا قليلا النظر ـ الذي لا يمكن أن يُصرف ـ عن الإيحاء العثماني في كلامه، وكأن سورية ولاية تابعة للباب العالي! فإن موقف زعيم «العدالة والتنمية» لا يتناسب وموقف تركيا التقليدي من سياسات التدخل الدولي في شؤونها الداخلية، ورفضها الدائب له. فلقد ظلت صورتها في العالم الخارجي غير طيبة بسبب انتهاكاتها لحقوق الأكراد. وحين كانت الاحتفالات في أوروبا والعالم بمأساة إبادة الأرمن، في الحرب العالمية الأولى، تجري في العواصم في شكل تظاهرات استنكار أو استذكار، من الجاليات الأرمنية التي أباد الأتراك أجدادها، ومن منظمات حقوق الإنسان، كانت ثائرة تركيا تثور بالمناسبة، وترفع العقيرة للقول إن هذه الحملات تدخل سافر في شؤون تركيا، ومحاولة لتشويه سمعتها في العالم. حلال على تركيا أن تتدخل في شؤون جوارها، حرام على غيرها أن يتدخل في شؤونها!

لا تستطيع تركيا الأردوغانية أن تضع نفسها، اليوم، موضع سورية، وتقبل بما لم تتوقف عن مطالبتها سورية بالقبول به. هل ترضى تركيا أن تقوم دولة مجاورة لها بالتحريض اليومي للمعارضة الكردية، المسلحة والمدنية، فيها؟ وبالدعوة إلى فرض منطقة حماية في شرق الأناضول وتأمين غطاء جوي يقيهم جرائم القتل والإبادة؟ وباستقبال قيادات المعارضة الكردية في أراضيها واحتضان مؤتمراتها؟ أو بدعم أحزاب المعارضة العلمانية فيها ودعوتها إلى إسقاط النظام الإسلامي فيها بالتظاهرات والمسيرات؟ سوف ترفض تركيا ذلك بشدة وتقاومه بكل ما أوتيت من قوة. ستقول عن المسلحين الأكراد إنهم إرهابيون وقتلة ومجرمون وليسوا طلاب حق شرعي، وإنها حين تقاتلهم إنما تفعل ذلك دفاعاً عن أمن الشعب ووحدة الوطن واستقرار الدولة. ومع أن ديمقراطيا لا يمكنه أن يوافق تركيا على سياساتها تجاه حقوق الإنسان الكردي، إلا أنه لن يجادلها كثيراً في حقها في حفظ أمن مواطنيها وجنودها ومؤسساتها من العنف المسلح. لكن تركيا لا تقرأ نفسها في مرآة سورية، فترى في مواجهة الجيش للمسلحين سعياً من الدولة في حفظ أمن الوطن والمواطنين، وإنما ترى فيه تمرداً مسلحاً مشروعاً لإسقاط النظام!

حتى الآن يختلط الأمر على المرء في شأن تصرف رئيس وزراء تركيا تجاه دمشق: هل يتصرف كزعيم دولة إقليمية ذات مصالح أم كزعيم حزب عقائدي حاكم؟!