فنزويلا تتأهب الثورة مرهونة بتجذير التوجهات اليسارية
منذ تقدم قوى اليمين في استحقاق الانتخابات البرلمانية الفنزويلية، زخرت وسائل الإعلام اللاتينية بالدعوات إلى سياسات اقتصادية- اجتماعية أكثر جذرية، وإلى تقدم الأحزاب اليسارية الحاكمة في أمريكا اللاتينية خطوة نحو الأمام، بإعلان وقف السياسات الإصلاحية التي لا تنهي جوهر النهب بالمطلق.
تجد القوى السياسية اليمينية متنفساً لها على الجبهات الأكثر تعرضاً للاضطراب الاقتصادي- الاجتماعي، وتقدم نفسها «بديلاً» سياسياً للملايين الرازحين على خطوط الفقر وتحتها. ارتبط تقدم هذه القوى خلال الفترة الأخيرة، في بعض دول أمريكا اللاتينية وأوروبا، بتلقي منظومة رأس المال المالي العالمي الإجرامي ضربات قاصمة على أكثر من جبهة: من أفغانستان إلى العراق وسورية، وما تخلل هذه المنطقة من استثمار فاشي في «اقتصاد أسود» شهدت بعض تجارته صفعات مؤلمة مؤخراً.
الظرف الحرج..
ومحاولات الانقضاض
إلى جانب الظرف الخارجي المذكور آنفاً، كانت الصعوبات الاقتصادية التي واجهتها فنزويلا خلال الفترة الماضية واحداً من أسباب تقدم اليمين في الانتخابات البرلمانية. البلد الذي تقول العديد من المراكز البحثية بأنه يحوي أكبر احتياطي للنفط في العالم، واجه حرباً شعواء في أسعار النفط العالمية، التي هددت بدورها الدولة الفنزويلية التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط بشبح التراجع الاقتصادي الكارثي. بينما أشارت تقديرات للبنك الدولي يوم الأربعاء 6/1/2015، إلى أن الاقتصاد الفنزويلي قد انكمش بنسبة 8.2% خلال عام 2015، ومهدد بأن يصل هذا الانكماش إلى حدود 4.8% إضافية في عام 2016.
في موازاة ذلك، تهدد قوى اليمين، التي باتت تسيطر على الأغلبية البرلمانية، بالانقضاض فعلياً على الإرث البوليفاري، وعلى المكتسبات التي حققتها الحكومات اليسارية في فنزويلا خلال 17 عاماً، شهد خلالها الاقتصاد قفزات نوعية وإن كانت غير كافية. وإن كانت دعوة قوى اليمين مؤخراً إلى إزالة صور الرئيس الراحل، هوغو شافيز، والرمز الثوري اللاتيني، سيمون بوليفار، من مبنى البرلمان الفنزويلي، لا تزال في سياق الخطوات «الاستعراضية»، إلا أن عملية التجهيز الجارية لاستخدام الصلاحيات البرلمانية بهدف عزل الحكومة والرئيس خلال فترة 6 أشهر، تشي بأهمية وقوة المعركة السياسية الحاصلة في فنزويلا.
معركة تجذير السياسات
إذا كانت قوى اليمين السياسي تستند في صعودها على آلام الناس وحاجتهم للبدائل، تغدو الاستراتيجية الفنزويلية الوحيدة التي من شأنها أن تكبح صعود اليمين، وأن تجنب الفنزويليين سيناريوهات كارثية محتملة، ماثلة في تجذير السياسات الاقتصادية- الاجتماعية، والخروج من السياسات السابقة التي اعتمدت على اتخاذ خطوات منقوصة وجزئية ذات طابع اشتراكي، اقتصرت على عمليات الإصلاح داخل التركيبة الرأسمالية ذاتها. وقد أطلق الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، مؤخراً بعض الإشارات على منحى حكومي في هذا الاتجاه.
فجر الأربعاء الماضي 6/1/2016، أجرى الرئيس مادورو تغييراً حكومياً، واضعاً الأساس لفريق اقتصادي جديد يحمل تطلعات يسارية أكثر جذرية. وكانت المفاجأة بتعيين لويس سالاس، اليساري المختص في الاقتصاد السياسي، و«المتهم» من مركز «باركلي» الاقتصادي الأمريكي بأنه «داعم كبير لسياسة مراقبة الأسعار، والتشدد في مراقبة قيمة العملة»، نائباً للرئيس لشؤون الاقتصاد، وهو أعلى منصب اقتصادي في البلاد.
كما قام مادورو بتقسيم وزارة الاقتصاد والمالية إلى وزارتين: وزارة «الاقتصاد المنتج»، التي سيرأسها سالاس، ووزارة «الخدمات المصرفية والمالية»، برئاسة رودولفو ميدينا، أستاذ الاقتصاد القياسي، ذو التوجهات اليسارية. وفي موازاة ذلك، أنشأ مادورو وزارة جديدة للتجارة الخارجية والاستثمارات، على أن يتولاها خيسوس فاريا، وهو اقتصادي متخرج من ألمانيا، ونائب سابق وعضو بارز في الحزب الشيوعي الفنزويلي.
الجيش يدعم التغييرات..
مادورو الذي أعلن- عقب الكشف عن التشكيلة الحكومية الجديدة- أن فنزويلا ستكون في حالة «طوارئ اقتصادية»، أكد في احتفال شعبي في العاصمة كاراكاس: «إننا ماضون في دفع هذا الوطن إلى الأمام.. لا أعتقد للحظة واحدة أننا عاجزون عن دفع البلاد للتغلب على هذا النموذج الاقتصادي المعتمد على النفط، وعلى الرأسمالية».
وبعد يومين من التغيير الحكومي، أعلن وزير الدفاع الفنزويلي، فلاديمير بادرينو، يوم الجمعة 8/1/2016، «دعم الجيش المطلق، وغير المشروط، للرئيس نيكولاس مادورو، في ظل الأزمة التي تشهدها الحكومة مع البرلمان».
تبدو المعركة السياسية في فنزويلا على أشدها. فإلى جانب الاعتراضات التي أعلنتها قوى اليمين السياسي إزاء التركيبة الحكومية الجديدة، باتت هذه القوى تعبئ أنصارها للخروج إلى الشارع، محاولة فرض المسار السياسي المستقبلي لفنزويلا بالقوة، فيما قوبلت التغييرات الجديدة بترحيب شعبي عمالي ونقابي واسع النطاق.
تكمن أهمية المعركة السياسية التي يخوضها اليسار الفنزويلي اليوم، بأنها في حال نجحت بتعرية خطاب التعبئة الشعبوي اليميني، فإنها ستحول الحدث الفنزويلي إلى نموذج مؤثر وعبرة للجبهات التي تشهد مداً يمينياً يحاول أن يجد لنفسه مساحات عمل، من خلال «ملء الفراغات» الناشئة في جدار الأنظمة التي لا تزال تعول على نجاعة «الإصلاحات» داخل التركيبة الرأسمالية ذاتها.