(الدبلوماسية) الخانقة!
يمر النشاط الدبلوماسي الروسي بفترة نوعية هامة، حيث يبدو الروس منهمكين بإطفاء الحريق الذي تنعشه الولايات المتحدة في المنطقة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
من الخرطوم جاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي خلال اجتماع للمنتدى العربي الروسي بمشاركة جامعة الدول العربية حول القضية الفلسطينية مثيرة للاهتمام، حيث أشار لافروف إلى "ضرورة مناقشة القضية الفلسطينية على طاولة مجلس الأمن"، كما دعا إلى تفعيل الرباعية وإشراك الجامعة العربية فيها، مايعكس مساعٍ روسية حثيثة للعودة إلى المنطقة ومن باب أعقد قضاياها وبطريقة تختلف عن الطريقة الغربية التي تحتكر إدارة الصراعات. ومن السودان أيضاً قال وزير الخارجية الروسي إنه يأمل في بحث إمكانية مساهمة روسيا في تسوية النزاع في دارفور، وعدد من دول جوار السودان.
أكثر من إطفاء حريق!
لا تتمثل سياسة إطفاء الحريق اليوم بالدعوة الروسية إلى حلول سياسية لمعظم مشاكل المنطقة وحسب، وهي كما يراها بعض المؤمنين بالأمريكي محض موقف مبدئي أو إنسانوي غير عملي، أو إنه إصرار من باب المناورة للصمود بالكاد قد يؤمن للروس قسمة ما، لكنه سيفضي لأن تكون اليد العليا للأمريكي بنهاية المطاف حيث ينتصر الذي يملأ الأجواء بالحروب والعسكرة والميلشيات التكفيرية. هؤلاء يرون في الموقف الروسي عجزاً عن المواجهة المفتوحة مع الأمريكي الذي يشعل العالم دون رادع.
مالم يره هؤلاء حتى اللحظة أن في تلك السياسة المستندة إلى التراجع الأمريكي المستمر منذ أزمته الاقتصادية في عام 2008 "الاستثمار" الناجح للفشل الأمريكي في المنطقة واستثمار وقت الهبوط الأمريكي بنسج علاقات واسعة النطاق في الفضاء الأمريكي القديم. فالإعاقات الروسية الحالية لاتشمل أعداء الأمريكي في المنطقة كإيران وسورية، بل تضم أيضاً الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة كدول الخليج ومصر والسطلة الفلسطينية والسلطات العراقية التي أُرهقت كلها من الحروب الأمريكية بالوكالة. تغدو هذه السياسة اليوم أكثر عملية لإدارة الصراع والمواجهة بقوة، فهي باستمثارها لوقت التراجع الأمريكي وصرامتها في ضبط حدود المناورة الأمريكية تفرض شروطاً تفضي إلى حل سياسي في نهاية المطاف ينهي الحلم الأمريكي بحروب جديدة. هكذا كانت زيارة الرئيس بوتين إلى تركيا مؤخراً والتي سبقها لقاء وزير الخارجية السعودي مع نظيره الروسي مساعي جدية في ضبط الأدوات الأمريكية على "دوزان" موسكو.
الارتداد للداخل؟!
إن المنتهى الموضوعي للسياسة الأمريكية المعتمدة على تسعير التناقضات أفضى بالمنطقة للبحث عن حلول ما بعيداً عن التدخلات الخارجية، أو بالحد الأدنى بعيداً عن الإملاءات الأمريكية التي تتطلب المزيد من التنازلات في كل مرة وهو ما بات يهدد "العروش" لأجل إنقاذ واشنطن فقط، وهو ماترى فيه موسكو أزمة أمريكية خانقة تستدعي الضغط على الحلفاء إلى حد انفضاضهم عن "ماما أمريكا" كما يحصل في أوروبا التي تعاني الكثير من تعتنت الأمريكي في الأزمة الأوكرانية. وهو مايقطع الطريق أيضاً على السياسة الأمريكية ويجعلها ترتد على شكل أزمات للداخل الأمريكي، ألم تكن إقالة تشاك هيغل وزير الدفاع مؤخراً ثمرة إدارة الأزمة السورية والأوكرانية؟!
في هذا السياق أيضاً كان من اللافت مؤخراً زيارة النائب وليد جنبلاط لموسكو حيث أكد الأخير أن روسيا حريصة على الاستقرار في لبنان، فيما وصف "إسرائيل" بـ"الإرهاب الحقيقي" في المنطقة كما أشاد بالعلاقات الروسية - اللبنانية، تبع ذلك زيارة ميخائيل بوغدانوف مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط إلى بيروت حيث قال بعد مباحثاته مع وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل "إن الحوار القائم بين روسيا ولبنان يقوم على أساس الثقة المتبادلة". وهو ماسمح لبعض المراقبين التأكيد بأن مباردة لتسوية سلمية في لبنان بين فرقاء 14 و8 آذار ستكون هي المبادرة الثالثة للروس في المنطقة بعد مساعي جينيف الإيراني والسوري، وبذلك يستكمل الروس دخولهم على أعقد قضايا المنطقة ومن كافة الأبواب.
وفقاً لهذا الفهم يمكن اليوم تفسير الهدوء وبرودة الأعصاب الروسية في العديد من الملفات، فالتعنت الروسي على الحل السياسي، ومهما بلغت خسائر هذا الإصرار والذي يراه البعض إصراراً على حل ناعم يمانعه الأمريكي بزيادة الحريق، ليس إلا أعلى التكاليف والخسائر على الأمريكي الذي اعتاد الانتعاش من الأزمات الدولية والحروب المديدة.