محمود عباس.. من «الحمائم» إلى «الصقور»!
ما إن انتهى محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية من خطابه على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى جاءت ردة الفعل الأمريكية واعتبرت خطابه بأنه عدائي، وتبع ذلك تهديد نتنياهو بالهجوم على عباس من المنبر ذاته. فما الذي يحصل. هل بات «حمامة سلام» الأمس «صقراً» اليوم؟!
خاطب عباس «إسرائيل» طوال الوقت بأنها دولة احتلال عنصري، وذهب إلى أكثر من ذلك حين اتهمها والمستوطنين بالفاشية. صعّد عباس وانتقد داعمي «إسرائيل» الذين يدافعون عن حقها بالدفاع عن نفسها على حساب دماء الفلسطينيين، غامزاً بذلك من قناة الولايات المتحدة التي وصفت خطابه بالوقح. لم يقف الرجل عند هذا الحد، بل تحدث عن إبادة جماعية تقوم بها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني وعن سياساتها القائمة على التطهير العرقي مشبهاً حادثة حرق الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير من قبل المستوطنين بطريقة غير مباشرة بـ«المحرقة النازية».
حقيقة الخطاب!
لم ينتقد مهندس «أوسلو» الأبرز، العنف من «الطرفين» كعادته، بل على العكس تحدث عن استمراره على نهج وقيم الفدائيين والثورة الفلسطينية التي انطلقت في الـ65. ربما لم يرد الرجل إزعاج توافقه مع «حماس» وباقي فصائل المقاومة. ولم يذكر «عملية السلام» إلا شذرات وتحديداً في نهاية الخطاب رابطاً «السلام» بقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، وذلك بعد أن توعد قادة الاحتلال بعدم الإفلات من العقاب في إطار القانون الدولي!.
بالمقابل لم يتبن الرجل خياراً غير المفاوضات، لكنه رأى أن المسار الحالي لها قد انتهى وآن استبداله بطرق أكثر «جدية»، وفي إطار ذلك أعلن أن خطوته القادمة هي التوجه لمجلس الأمن لأجل إقرار الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وهدّد بإشعال حرب دبلوماسية على «إسرائيل»!!.
لا يمكن أن يثق المتابع للقضية الفلسطينية بحديث عباس حقيقة، فهو رغم كل ما تحدث فيه على المنبر لم يخرج عن أوليات الاتفاقيات الدولية والقرارات الأممية المصاغة بحق الشعب الفلسطيني، وهو أقر بذلك من على المنبر حين قال: «لم آتيكم بجديد»، لا بل أكثر من ذلك إن ما طالب به الرجل فعلياً لا يخرج قيد أنملة عن مضمون «المبادرة العربية للسلام» سيئة الصيت وعن مضمون اتفاق أوسلو «عار محمود عباس» الأبدي والذي يضيّع حق العودة والقدس.
بين الخطاب والرؤية!
ما يمكن تلمسه حقيقة في خطاب «حمامة السلام» هو تحول على صعيد الخطاب إلى الدرجة القصوى التي يستطيعها الرجل كي يحافظ على توازنات الحركة السياسية الفلسطينية التي دخلت في مرحلة تنبئ بالجديد، فهو لا يستطيع تجاوز النصر المبين الذي حققته المقاومة والاعتراف السياسي الدولي بها والإدانة الدولية للاحتلال.
بكل تأكيد يرتبط هذا التحول مع محاولة عباس اللحاق في ركب التوازن الدولي الجديد الذي تلمسه الرجل، والتي تعاني منه الولايات المتحدة وحليفتها «إسرائيل» على شكل تراجعهما وزيادة عزلتهما الدولية مما حدا به رفع تنسيقه مع موسكو القطب الصاعد وعلى ذلك توسع هامش مناورته الخطابية، وخاصة أن أزمة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني العميقة أوصلتهما إلى درجة الحضيض، التي تقتضي أخذ المزيد من التنازلات من حلفائها المنبطحين في الوقت الذي بات حلفاؤها غير قادرين عن التنازل أكثر فرؤوسهم على المقصلة.
ربما كان ذلك التحول في الخطاب هاماً، على الأقل أوضح درجة أزمة «إسرائيل» والولايات المتحدة وحلفائها ومستوى تراجعهم فـ«محمود عباس» واحدٌ منهم. لكن دون شك لم ينجم ذاك التحول عن تعديل رؤية «عباس» السياسية لطبيعة الصراع مع الصهيوني وآفاق وأدوات حله، بل ربما هو محاولة من الرجل إلزام مقاومة الشعب الفلسطيني برؤية مسقوفة من توازنات الحقبة السابقة. ورغم أن ذلك سيتيح للحركة السياسية الوطنية هامشاً أكبر للمناورة على المستوى الدولي، إلا أنه يضع على عاتقها بالوقت نفسه إعادة صياغة رؤية استراتيجية وطنية وحدوية جوهرها اعتماد نهج المقاومة بكافة أشكالها وعلى رأسها المسلحة التي غيرت التوازنات على الأرض.