الضرورة الاقتصادية تفرض تحولاً تركياً
لطالما تباهى الغرب بإنجازات الاقتصاد التركي بعد التزامه بـ«نصائح» صندوق النقد والبنك الدوليين، ولطالما تباهى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، بميّزات الاستثمار في تركيا، من حيث التسهيلات الشاملة لحركة رأس المال، ومعدلات الفائدة المنخفضة.
«منارة الشرق الأوسط».. تخبو!
«منارة الشرق الأوسط» هو لقب الاقتصاد التركي الذي شهد صعوداً مرحلياً، بفعل الليبرالية الجديدة بين الاقتصادات النامية في المنطقة، وهو الذي حقق «معدلات خارقة» في الناتج القومي بين 2008 و 2012 وصلت إلى 900 مليار دولار في 2012، تعزي الحكومة التركية معظمها إلى الانفتاح الكبير في السياسة التركية نحو الغرب.
المشكلة اليوم تكمن في ما تلا تلك المعدلات «الخارقة»... فقد بلغت نسبة نمو الناتج القومي (6.7%) نهاية 2009، وهي نسبة لافتة، ثم (4.7%) بين 2011 و2012، ثم انخفضت إلى حدود (-0.5 %) في الربع الثالث من 2012. ولتبلغ وسطياً بين 2013 و2014 (0.5%). وأيضاً ارتفعت نسبة الدين العام من إجمالي الناتج القومي لتبلغ وسطياً بين 2009 و2014 معدل 49% من إجمالي الناتج القومي.
ماذا تعني كل هذه الأرقام؟ تعني ببساطة تراجعاً في جميع معدلات النمو في مختلف جوانب الاقتصاد..
القضية السياسية.. هي اقتصادية أولاً..
منذ أواسط 2012، بدأت موجة من المظاهرات تجتاح اسطنبول وغيرها من المدن التركية، السبب المباشر كان نيّة الحكومة التركية، التي يقودها حزب «العدالة والتنمية»، هدم الحديقة التراثية في وسط «ميدان تقسيم» وبناء مجمع تجاري محلها. وبالعودة إلى أرقام تراجع النمو، فإن ما نتج عنها ارتفاع نسبة العاطلين عن العمل، لتصل إلى أكثر من 10% نهاية 2013، والنسبة إلى ارتفاع حسب توقعات الهيئات الاقتصادية، تبدو النسبة قليلة مقارنة بدول الجوار، لكنها مرتفعة إذا أخذ بعين الاعتبار إمكانيات البلد الهائلة والتي تؤهلها لتكون من دول الصناعة الثقيلة، دون أن ننسى أن هذه النسبة هي في «منارة الشرق الأوسط» الليبرالية..! وهي ذاتها التي تعاني معدلات مقلقة من التضخم وصلت في نهاية 2012 إلى 9% والنسبة في ارتفاع.
التناقض التي تعانيه تركيا على الصعيد المالي الملموس، أن كل تلك الأرقام تسبب انخفاضاً في قيمة الليرة التركية، وهو الأمر الذي فرض على البنك المركزي التركي رفع معدلات الفائدة، بالتالي فإن التسهيلات التي ينتظرها رأس المال، الخارجي خصوصاً، وعلى رأسها معدلات الفائدة المنخفضة بدأت بالتآكل، هذا ينتج تلقائياً تراجعاً في معدلات الاستثمار الخارجي، الذي ينتج عنه تشغيل أقل، إنتاج أقل، معدلات نمو في تراجع، معدلات بطالة أكبر، احتقان اجتماعي أكبر..
الأزمة التركية.. لا جديد..
ماتعانيه تركيا، هو ما تعانيه كل دول العالم، من آثار الليبرالية الاقتصادية والسير في الركب الأمريكي. لم يكن ليصدق أحد قبل 2008 أن الأزمة ليست مالية وإنما اقتصادية عامة، وأن الزهوة في معدلات النمو هي فقاعة ستليها حتماً فجوة كبيرة خانقة.
وعلى الصعيد التركي خصوصاً، فإن هذه البلد المهيئة لتكون في مقدمة بلدان الصناعة الثقيلة، تستورد 97% مما تحتاجه من الطاقة لتشغيل صناعتها، وهي بالتالي مضطرة للتوجه إلى حيث الطاقة، حيث توجد 70% من ثروات العالم، ومنها الطاقة. هي مضطرة بفعل المصلحة الاقتصادية أن تتوجه إلى الشرق.
هذا التوجه هو ما يفرض اليوم التحولات في السياسة التركية الخارجية، وتحديداً انسلاخها النسبي عن سياسة الناتو والغرب، الأمر الذي ينعكس على حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، والذي بنى برامجه السياسية والاقتصادية خلال الأعوام الماضية على أساس الليبرالية والارتباط التام بالغرب.