الحكومة المصرية.. الهدية المفخخة من النظام القديم
تعتمد القوى المضادة للثورة في مصر أساليب ترويع المواطنين. هذا آخر ما أخرجته من جعبتها. فاعلية هذه الأساليب تؤثر بشدة في ظروف ثورة انفجرت دون طليعة تقود مسيرتها، وهو ما دفع بالكثيرين جداً من المتطفلين من كل الألوان للعمل على ركوبها لاجهاضها. وبالنتيجة فإن جوهر الثورة المتمثل في عمليتي الهدم والبناء، أي هدم النظام القديم وازالته وبناء النظام الجديد تواجه تعثراً شديداً.
جرى تقويض جزء من قمم النظام القديم. لكن لم يبدأ بناء النظام الجديد بعد. من هنا تعمل القوى المضادة على وقف العملية بالكامل، اعتماداً على أنها لا تزال تتمترس في حكومة عصام شرف، وفي وزارة الداخلية وكل مفاصل الأجهزة الحكومية. كما لا يزال جسد الطبقة المهيمنة سليماً.
تتعالى الصيحات.. الاقتصاد الاقتصاد.. الأمن الأمن! وكلاهما مرتبط بالآخر بطبيعة الحال. لكن الصائحين يستهدفون شيئاً واحداً هو إيقاف الثورة عبر التزييف الفج للصورة. وتأتي الحكومة على رأس الصائحين باعتبارها حكومة للثورة المضادة بامتياز ولأنها تريد من الشعب أن يتمنى عودة سلطة مبارك مرة أخرى.
لا ننكر ارتباط الاقتصاد بالأمن. ولكن الارتباط ليس على الوجه المبتذل والسطحي الذي تطرحه الحكومة والطبقة اللصوصية المهيمنة حتى الآن. فالاقتصاد هو الاقتصاد الحقيقي وليس الاقتصاد الريعي الطفيلي القائم على النهب والسرقة والفساد الذي تخشى قوى النظام القديم النيل منه. والأمن ليس هو الأمن بالمعنى الضيق الذي يمكن تحقيقه إذا ما قامت وزارة الداخلية بعملها (المتوقف عمداً). لكن الارتباط المرجو يكون بين الاقتصاد المنتج وبالعدل الاجتماعي والأمن الوطني وكل مفردات القضية الوطنية، والحريات الديمقراطية والتطور الثقافي والعلمي... الخ، وهو ما تحققه حكومة وطنية حقاً.
نتناول باختصار موضوعي الاقتصاد والأمن اللذين يتعالى الصياح والنعيق حولهما.
الاقتصاد:
الأمر الغريب في نعيق الحكومة حول الاقتصاد يطرح تساؤلات مشروعة، تدور حول حقيقة اهتمام وجدية هذه الحكومة بالنسبة للاقتصاد. وهل هي معنية به بالفعل؟ خاصة وأنها تسير على خطا النظام القديم الذي ألغى وزارات الاقتصاد والتخطيط، وألحق وزارة الصناعة بوزارة التجارة. ووضع الاقتصاد كله في يد وزير المالية فكان الخراب. وجاء وزير المالية الحالي ليقبض أكثر على الاقتصاد بعد الغاء ما كانت تسمى وزارة الاستثمار، وسار على نفس درب سلفه يوسف بطرس غالي الذي أدى إلى الخراب.
يتصايح وينعق الوزير بأن عجز الموازنة العامة للدولة يزداد، ومعدلات النمو تنخفض، كما ينخفض الاحتياطي النقدي، وأن البلاد تقترب من الإفلاس... الخ. وكأننا كنا ننعم في عهد المخلوع باقتصاد غاية في القوة بددته الثورة!! لكن أجهزة الدولة وعلى رأسها البنك المركزي تكذب ادعاءات هذا الوزير. والغريب أن البلاد قبل الثورة كان يتم نهبها بوحشية تفوق كل تصور، ومع هذا لم تصل أبداً إلى الإفلاس.
دون الدخول إلى التفاصيل، فإن الوزير يستخدم هذا الأمر ليكون ذريعة لاستمرار سياسات التبعية، وبالفعل حضر الاجتماع السنوي لكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وطالب بقروض هي بطبيعتها تحمل الفقراء بأعباء تفوق الطاقة، وتفاقم الكارثة التي ورثناها عن نظام اللصوصية القديم.
قبله ذهب رئيس الوزراء إلى مشيخات الخليج لطلب قروض واستثمارات. رغم أنه يعلم أن عروض الاستثمارات المقدمة من المشيخات موجهة إلى مجال التشييد الذي لا نحتاجه، والأخطر إلى مشاريع البنية الأساسية التي تدخل في صميم السيادة والأمن القومي، والتي نرفض مطلقاً أن يتملكها أو يتحكم فيها أحد.
مؤخراً قامت بعض المشيخات بالإعلان عن تقديم عدة مليارات من الدولارات لا نعلم شيئاً عن شروط استخدامها أو المطلوب مقابلها، خصوصاً بعد التصريحات المشينة والجاهلة لرئيس الوزراء المذكور أثناء زيارته لهؤلاء.
في ظل إعلان رئيس الوزراء ونائبه ووزير ماليته عن التمسك بسياسة الاقتصاد الحر التي تحملنا ويلاتها فلا نشك إطلاقاً في أن الولولة والترهيب من كارثة اقتصادية وشيكة إنما يقصد بها أمور عدة، أولها مصادرة استكمال الثورة باعتبارها المتسببة (زيفاً) في الكارثة، وبالتالي استمرار السياسات القديمة وفي مقدمتها تكريس التبعية بتوسيع التعامل مع المؤسسات المالية الدولية، وبيع ما تبقى من القطاع العام للحصول على موارد مالية، واستمرار تحميل الفقراء المزيد من الأعباء (الضرائب غير المباشرة– زيادات الأسعار... الخ)، عدم المساس بمصالح وأوضاع الطبقة اللصوصية المهيمنة، وصولاً إلى تصفية المحاكمات والعفو عن أركان النظام القديم ورئيسه وأسرته، وعدم ملاحقة باقي اللصوص والخونة، بحجة جلب الاستثمارات والقروض من الغرب ومن مشيخات النفط، أي الحفاظ على أوضاع ما قبل الثورة حتى ولو على حساب موت نصف الشعب المصري.
تتأكد مقاصد هذه الحكومة بتجاهلها للبدائل المحلية المتوفرة، التي تلجأ لها كل الحكومات. لكن عشق التبعية والمذلة تمنعهم من التفكير في أي شكل من أشكال الاعتماد على الذات. إذ تتوفر في البنوك الوطنية ودائع قيمتها تريليون جنيه نصفها في شكل سيولة غير مستثمرة، أي 500 مليار جنيه مصري تساوي حوالي 90 مليار دولاريمكن إصدار سندات على الخزينة بقيمة احتياجات الحكومة تقوم البنوك بشرائها، ويتم حل مشكلة السيولة الفائضة، وحل مشكلة العجزالذي تدعيه الحكومة، وهو أسلوب جرى اتباعه سابقاً.
الأمن:
أرسى السادات منذ انقلاب مايو 1971 تقليداً هو أن يكون وزير الداخلية من ضباط الشرطة، وتبعه الرئيس المخلوع. ورغم أن آخر وزراء ماقبل الثورة في السجن الآن، كما أن التالي (في حكومة أحمد شفيق) هو الآخر في السجن، فقد تم تعيين وزير من الشرطة لوزارة الداخلية، لا يزال عاجزاً حتى الآن عن تحقيق الأمن. كما لا تزال أعداد هائلة من ضباط الشرطة في بيوتهم، لكنهم يتقاضون رواتبهم. ولا يعتبر الانفلات الأمني بعيداً عن عبث الشرطة ووزارة الداخلية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام القديم وبالجماعات السلفية وعشرات الألوف من البلطجية وكلهم تم صنعهم في (معامل) وزارة الداخلية وخصوصاً جهاز مباحث أمن الدولة المنحل.
الانفلات الأمني مصنوع مصنوع مصنوع. وهدفه هو إجهاض الثورة، والحفاظ على النظام القديم والعفو عن رموزه وربما عودتهم للحكم.
إسقاط هذه الحكومة واجب وطني وثوري:
ليس لهذه الحكومة أي أداء ملموس. هي حكومة تعويق الأعمال وليس تصريف أعمال. كل ممارساتها ضارة ومعادية للثورة. لم تنفذ حكماً قضائياً بالحد الأدنى للأجور. لم تمس بالحد الأعلى للأجور وأرقامه الفلكية. لا تقترب من إهدار المال العام. لم تفكر في الحقوق الاجتماعية المهدورة. لم تعمل على ضبط الأسواق أو الأسعار أو الحد من استيراد مالا لزوم له. لا تفكر في زيادة الضرائب على الأرباح الفلكية لطواغيت المال اللصوص. أو الاقتراب من الثروات المنهوبة من الشعب والموجودة داخل مصر، لا تسعى بجدية للحفاظ على الأمن. إنها ترى أن مهمتها التاريخية الحفاظ على النظام القديم الذي تفجرت الثورة ضده.
المكونات الرئيسية لهذه الحكومة ومن بينهم وزير المالية كانوا أعضاء في لجنة سياسات العصابة المخلوعة وبدلاً من أن يكونوا في السجن لو أننا كنا نحاكم نظاماً وليس أفراداً مجرمين، فقد جاؤوا إلى الحكومة. أما رئيس الوزراء ونائبه القومي اليساري السابق فهم ليبراليون جدد.
حكومة الثورة المضادة القائمة لابد من خلعها وإحلال حكومة ثورة تكون أولى مهامها عملية تطهير واسعة وشاملة خاصة لوزارة الداخلية، وأن يكون وزير الداخلية من ضباط الجيش الحازمين والحاسمين وليس من ضباط الشرطة. وأن تتم الاستجابة لمطلب مد المرحلة الانتقالية إلى ثلاث سنوات على الأقل يعد خلالها دستور الثورة الذي تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية والرئيسية. ويتم خلالها التصفية الكاملة للنظام القديم، وللمتطفلين على جسد الثورة.
نريد حكومة تؤسس فعلاً لمشروع نهضوي حضاري قائم على التحرر الوطني والتنمية الشاملة المخططة والعدل الاجتماعي والديمقراطية والوحدة العربية.
لقد آن الأوان لرحيل حكومة هي مجرد هدية مفخخة من النظام القديم.