الثورة في خطر.. والدولة أيضاً
إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

الثورة في خطر.. والدولة أيضاً

المشهد المصري الراهن بؤكد  أن خطراً داهماً وحالاً يهدد الوطن. تتوالى عمليات انقضاض القوى المضادة للثورة بمختلف تلاوينها.

الخطر الأكثر بروزاً الآن هو ما يجري على جبهة الوحدة الوطنية التي يجري تمزيقها والصدامات بين المسلمين والمسيحيين وصولاً إلى إشعال النار في الكنائس، وسقوط قتلى وجرحى في الاشتباكات. وهي كارثة تتصاعد، وتؤكد أن قوى تسعى إلى استثمار هذه الأحداث وتسعير التعصب بما يفتح الباب أمام الفوضى، وربما التدخل الأجنبي.

القوى الداخلية الظاهرة في تحريك هذه الأحداث هم الجماعات الاسلامية السلفية ذات العلاقات الوطيدة والمتشابكة مع جهاز مباحث أمن الدولة وفلول النظام القديم من ناحية، والأخوان المسلمون الطامحون إلى إجهاض الثورة والقفز إلى الحكم من ناحية أخرى. وتوفر القنوات التلفزيونية الدينية المصرية والسعودية المناخ الملائم لتأجيج الفتنة باشاعة التعصب والفكر السلفي الوهابي.

تعمل القوى المحركة والمنفذة لهذه الفتنة بارتباط مع قوى اقليمية متمثلة في مشيخات الخليج، وقوى خارجية يقودها التحالف الصهيو– أمريكي المستفيد الأول من تبعات هذه الفتنة. وقد أفصح الأمر عن نفسه بعبارات خرجت بشكل واع أو عفوي من مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بالرياض أثناء برنامج حواري على قناة النيل للأخبار حينما قال بصراحة «إننا في انتظار الشرق الأوسط الجديد». بكل ما يصحبه من كوارث.

الأسباب الظاهرة التي تساق كأسباب لصدامات الفتنة تتمحور حول محاولات «تحرير» سيدة مسيحية أو أكثر يقال أنهن اعتنقن الإسلام، لكن الكنائس قامت بخطفهن واحتجازهن. ويخرج علينا السلفيون عبر الفضائيات ليعبروا عن غضبهم العارم وتصميمهم على تحرير «أخواتهم الأسيرات»! وكأن المسلمين الذين يزيد عددهم عن المليار وربع قد أصيبوا بفواجع هائلة. ولا يتذكر هؤلاء مئات الأسيرات الفلسطينيات وآلاف الأسرى المسلمين في سجون العدو الصهيوني من الرجال والأطفال. كما لا يتذكرون القدس والمسجد الأقصى، أو مئات الملايين من الجوعى والعاطلين والمرضى بفعل الاستغلال الوحشي من طواغيت مال مسلمين وأجانب، كما لا يفكرون في الكرامة الوطنية وحتى الشخصية المهدرة كل يوم في العالم الاسلامي من أقصاه إلى أقصاه. لكنهم فقط يندفعون باتجاه تدمير مصر والنسيج الوطني لشعبها، ولإشعال نار الفوضى الخلاقة التي توفر المناخ لتمرير مشروع الهيمنة الصهيو- أمريكي. ويرفضون الامتثال للقانون والقضاء لحل مثل هذه المشاكل.

يعلن الإخوان المسلمون كعادتهم دائماً عدم رضاهم عن هذه الأحداث. كما يعلن كبار شيوخ السلفيين سواء التابعين للمؤسسة الدينية الرسمية أو خارجها نفس الأمر. ويهرع بعضهم لملاقاة رجال الدين المسيحي وللكنائس لتبويس اللحى وتبادل كلمات المجاملة الفارغة. لكن ما  يدفعون به كوقائع على الأرض شيء آخر. كما أن الحلول لن تتم سوى بعلاج مسببات هذه الظواهر شديدة الخطر.

الإمبرياليون والصهاينة وحلفاؤهم الإقليميون حريصون على استمرار النظام القديم ولو بشخوص ووجوه أخرى. أي استمرار النظام الاقتصادي– الاجتماعي القائم على «الاقتصاد الحر» الذي جر البلاد إلى أزمتها الشاملة، والذي تفجرت الثورة بهدف القضاء عليه وإقامة نظام جديد وطني يوفر العدل الاجتماعي والديمقراطية للشعب، ويتمتع في ظله المصريون بالمواطنة المتساوية في دولة مدنية. وهنا تبرز الحقيقة الساطعة التي لا يمكن ولا يجب التعتيم عليها أو طمسها.

بينما يتصايح الإخوان معبرين عن الغضب من الولايات المتحدة الأمريكية، فإنهم يسعون الآن إلى لقاء مع الأمريكيين سوف يتم في وقت قريب، وفي كل الأحوال فإن التواصل لم ينقطع بين الطرفين أبداً. ووفق الخطة الأمريكية التي تعمل على التمكين لما يسمى «الإسلام المعتدل» ونموذجه التركي الإخواني، الذي يضمن استمرار نظم الاقتصاد الحر التابعة كما يضمن إنهاء العداء للعدو الصهيوني. جرت عملية تصفية بن لادن بكل ما يحيط بالتوقيت من ملابسات لتأكيد أنه جرى ويجري التخلص من التطرف الإسلامي، وبالتالي فإن الاعتدال القادم سوف ينهي المشاكل مع الأمريكيين. وفي هذا المفصل فإن الإخوان الذين يتبنون «الاقتصاد الحر» هم الأكثر ملاءمة في المرحلة القادمة حتى لو أقاموا دولة دينية، فالمهم هو بقاء واستمرار النظام الاجتماعي– الاقتصادي الرأسمالي التابع. المهم بالنسبة للإخوان هو وصولهم للحكم. حتى لو كان ذلك على أنقاض وطن وتمزيقه، وسقوط الإقليم كله إلى هاوية الجحيم.

يتجاور مع ما سبق في المشهد المصري أمر آخر هو موقف تتبناه قوى عديدة متباينة من ليبراليين ويساريين وقوميين برفض الدولة الدينية التي يسعى لها الإخوان والسلفيون بشكل صريح أو مموه. بيد أن هذا الموقف يحمل تناقضا بالنسبة لأحد أطرافه وهم الليبراليون تحديداً. إذ أن ما أنتج خطر إمكانية إقامة الدولة الدينية هو السياسات التي تبناها نظام الردة بقيادة السادات ثم مبارك، حيث تم وقف التنمية الشاملة وأطيح بما تحقق من العدل الاجتماعي ووصل التفاوت الطبقي إلى أقصى مدى وشاع الفقر والبطالة وتكرست التبعية وتم الصلح مع العدو الصهيوني، كما تم فقدان استقلالية القرار الوطني على قاعدة السياسات الاقتصادية الليبرالية التي أوصلت البلاد إلى أزمتها الراهنة. في هذا الوضع المأساوي ظهرت وتنامت نزعات التطرف والتعصب والتكفير وصولاً إلى العمل على القضاء على الدولة المدنية والرجوع إلى مرحلة ما قبل الدولة.

إن هزيمة هذا الخطر الداهم لن تتحقق بأي وسيلة سوى بالرجوع عن سياسات الليبرالية الاقتصادية، وإتباع سياسات معاكسة على طول الخط لما كان سائداً ولا يزال من سياسات مدمرة في كافة المجالات.

يتفاقم هذا الخطر في ظل الحكومة الهزيلة والهزلية القائمة في مصر، وإصرار أهم رموزها وفي مقدمتهم رئيسها عصام شرف ونائبه يحيى الجمل ووزير المالية على استمرار خط السياسات الاقتصادية الليبرالية. إذ يتطابق هذا الخط مع مصالح العدو الأمريكي من ناحية، كما يتطابق مع خط الإخوان المسلمين الذين يتبنون هذه السياسات من ناحية أخرى. في ظل ذلك فان النظام القديم مستمر، والأزمة مستمرة، والثورة يجري اغتيالها.

في ظل هذه السياسات وتداعياتها المدمرة تراجعت هيبة الدولة طوال سنوات. ويستمر تراجع هذه الهيبة بشدة راهناً. وهو ما يساعد على التطاولات التي يقوم بها السلفيون وبلطجية النظام القديم واشاعة انعدام الأمن في المجتمع.

في ظل هذه السياسات تتشكل مقدمات حالة الفوضى الخلاقة. بل تتشكل مقدمات ربما لحرب أهلية.

في ظل هذه السياسات لا تكون الثورة وحدها في خطر. بل الدولة المصرية أيضاً.