مشيخات النفط.. الدور المتآمر
الثورة المصرية أصابت الكثيرين بالفزع في الخارج والداخل على السواء. ولكن فزع أطراف عربية يستحق التوقف. ولذلك فإن إجهاض الثورة المصرية والثورات العربية هي مهمة أولى لدى هؤلاء، لما ستحدثه من إعادة صياغة توازن القوى في الاقليم لمصلحة قوى التحرر العربي، وما يلوح في الأفق من إمكانية تشكل كتلة من مصر وسورية وإيران وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين، بكل تأثيرات الأمر على مستقبل الاقليم برمته.
تكرس طوال سنوات واقع مشين تمثل فيما يسمى بمحور الاعتدال العربي، تشكل عموده الفقري من مصر وكبرى مشيخات النفط في الجزيرة العربية. كان هذا المحور يقوم بدور وازن تجاه قوى الممانعة والمقاومة ولمصلحة العدو الامبريالي والصهيوني. لقد انهار هذا المحور نتيجة للثورة المصرية.
لأكثر من ثلاثين عاما تم قطع العلاقات المصرية– الإيرانية، وأعلنت القيادة المصرية عدم منطقية استمرار هذا الوضع، وهو ما يصيب ميزان القوى القائم بخلل فادح يدفع العدو الصهيوني فاتورته التي قد تكون أكبر مما يتصور البعض.
طوال ما يقارب من عقد كامل تم تسويق تركيا باعتبارها نموذجا للاسلام المعتدل، كان النموذج ولايزال موضع رضا عميق من العدو الأمريكي. عمل حزب العدالة والتنمية وهو الفرع التركي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الحاكم في تركيا على إبراز وتضخيم دوره كمساند للفلسطينيين. في حين أن تركيا عضو في حلف الأطلسي وتربطها بالكيان الصهيوني علاقات عميقة أكبر من أن تهتز نتيجة للتهليل الفارغ لحكامها، خاصة وأنها تعتبر من أكبر أسواق سلاح الكيان الصهيوني. لقد انكشف الموقف أخيراً بعد تصريحات ونصائح أردوغان لسورية، وبعد انكشاف احتضانه لتنظيم الاخوان السوري الذي يقيم وينشط كما يشاء في تركيا. كما أن أردوغان الحنون يقوم بضرب أكراد تركيا بالطائرات والأسلحة الثقيلة، وهم في الحقيقة من أصحاب البلاد الأصلاء، ولذلك فالأولى به أن ينصح نفسه.
تنوعت وتعددت المواقف المعادية التي قامت وتقوم بها مشيخات النفط في مواجهة الثورات العربية وبخاصة الثورة المصرية. منطلق المشيخات هو الخشية من تأثير نموذج الثورة المصرية إذا ما سارت على طريق الاكتمال. ولذلك فإن إبقاء مصر على حالها قبل الثورة عبر إجهاض ثورتها ما ترى فيه هذه المشيخات وضعاً نموذجياً بالنسبة لها. فهي مجرد كيانات لاتزال تعيش مرحلة ما قبل الدولة، يهيمن عليها شيوخ قبائل حولوا هذه الكيانات إلى مجرد منابع نفط وقواعد عسكرية لألد أعداء شعوبنا جميعها. الغريب أن المشيخة المسماة «الإمارات» قد أفسحت أراضيها لأول مرة في تاريخ شبه جزيرة العرب لقاعدة فرنسية، ولم تكتف بالاحتلال العسكري الأمريكي مدفوع الأجر لكل مشيخات المنطقة. أما مشيخة «قطر» فقد أفسحت أراضيها للقيادة العسكرية المركزية الأمريكية، وخلافاً لما هو سائد فقد أعطت لسلاح الجو الأمريكي حرية التحرك جواً دون استئذان، فحولت المشيخة إلى مستعمرة أمريكية نموذجية، وهلم جرا. أي أن هذه المشيخات تسعى لأن تظل كل المنطقة تحت الهيمنة الصهيونية الأمريكية لكي تؤمن الحفاظ على نفسها لأطول مدى تحت حكم قبلي متخلف.
على قاعدة المصلحة في البقاء توحد الهدف الصهيو– أمريكي وكيانات المشيخات العربية، حاكماً سلوك الأخيرة ومواقفها تجاه ما يحدث في المنطقة، لأنها في الجوهر مجرد وقائع استعمارية أوجدها البريطانيون ويحميها الآن الأمريكيون. في ليبيا تعمل المشيخات على إرساء واقع لا غالب ولا مغلوب الذي سينتهي بتقسيم ليبيا. وفي اليمن حيث يصعب اكتمال طريق لا غالب ولا مغلوب، فليكن إبقاء علي عبد الله صالح لأطول مدة لانهاك الطرفين، وحماية الرئيس المرفوض وأسرته ودائرة نظامه من أي ملاحقة قضائية. وليكن التقسيم فيما بعد إن أمكن. في البحرين قامت عدة مشيخات باحتلالها وقمع الشعب الثائر بقسوة. فالخشية من ثورة شعب البحرين– وهو أول شعب في شبه الجزيرة العربية عرف طريقه إلى التعليم الجامعي وانفتح على الثقافة الحديثة– أن ثورته تمثل خطر إقامة دولة حديثة هناك، وسط مشيخات تخشى تهديد هذا الأمر لوجودها.
يعرف القاصي والداني الرعب الذي ألم بهذه المشيخات من الثورة المصرية، وبخاصة المشيخة الأكبر، وهو ما دفع هذه المشيخة «الوهابية» بدفع ودعم جماعة الاخوان التي تأخرت مشاركتها في الثورة إلى ما بعد الجمعة الدامية. ثم التيار السلفي الذي أفتى في بدايات الثورة بتحريم الخروج على الحاكم حتى وإن كان ظالماً فدفعت بهم للمشاركة في الثورة بعد خلع مبارك، وهدفها من ذلك استلاب الثورة وإجهاضها. بل رصدت كبرى المشيخات 2 مليار دولار لمساعدة قوى الثورة المضادة وعلى رأسهم الاخوان ومن يترشح من السلفيين في الانتخابات القادمة، وصولاً إلى أحداث مدينة «قنا» واعتصام السلفيين والإخوان والتحريض الطائفي للجماهير، الذي وصل إلى حد منع مرور القطارات (هذا التعطيل تم بتوجيه من أحد قيادات الاخوان في قنا)، ثم رفع علم السعودية من قبل أحد المعتصمين من هذا التيار، إلى جانب الدور الذي لعبته «قناة بث السموم» المعروفة باسم «قناة الجزيرة» في إبراز الإخوان والسلفيين بوجه خاص باعتبارهم أصحاب الثورة، وتكريس محدودية أهدافها بعيداً عن التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، والدفع بمفتي التنظيم الدولي للإخوان يوسف القرضاوي وتقديمه على القناه وكأنه مفتي الثورة، رغم أنه مفتي الفتن الطائفية. وليس آخر التآمرات تلك الضغوط التي مارستها هذه المشيخات لإعفاء مبارك وأسرته من المحاكمة وهو ما يعتبر تدخلاً مرفوضاً في الشأن الداخلي المصري. وبطبيعة الحال فهذه ليست مجرد تعاطف إنساني، ولكنهم يخشون من إرساء قاعدة محاكمة الحكام الخونة واللصوص لأسباب لا تخفى على أحد.
لكن الأنكى هو قيامهم قبل أن تكمل الثورة المصرية استدارتها صوب دورها العربي والاقليمي بالمشاركة في المؤامرة على سورية عبر عصابات الارهابيين الوهابيين، وذلك بهدف مصادرة إمكانية توسيع وتفعيل وإغناء كتلة الممانعة، وتكوين محورها المصري السوري الايراني وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين.
وفي هذا الصدد فإن خلط الأوراق بمحاولة إظهار ما يجري في سورية بأنه ثورة، يعتبر جريمة وتزييف مفضوح بكل المعايير. فبالرغم من أننا ندرك أن قطاعات من الشعب السوري كانت تعاني جراء سياسات خاطئة مبنية على التوجه إلى «الليبرالية الجديدة»، التي تسير بالضرورة في اتجاه معاكس تماماً للعدالة الاجتماعية، وأن فساداً كان يتوسع بوتيرة عالية وهو ما يهدد مناعة سورية وإمكانية استمرار خطها الوطني. غير أن الأوضاع كانت قابلة للإصلاح، الذي بدأه الرئيس بشار الأسد، والذي يجب أن يستمر ويتعمق خصوصاً على الصعيد الاجتماعي في حين كانت الأوضاع في مصر قبل الثورة عصية تماماً على أي إصلاح.
ينبغي في النهاية المرور سريعاً على زيارة عصام شرف رئيس الوزراء لمشيخات شبه الجزيرة العربية والساحل المهادن. ورغم أن «شرف» شخصية وطنية ونزيهة، غير أن تصريحاته عن أمن الخليج تعبر صراحة أو ضمناً عن موقف معاد لإيران، رغم أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ووزير الخارجية قد فتحا الباب أمام عودة علاقات قوية مع إيران، وهو ما أثار حفيظة المشيخات. مثل هذه التصريحات لرئيس الوزراء لا يجب أن تصدر عن رئيس وزراء مصر الثورة لأنها تعني الوقوف ضد القوى المعادية للكيان الصهيوني وللامبريالية الأمريكية، ولأنها لا تعكس موقف كلاً من الشعب المصري والجيش المصري. ويقيناً فإنه لم يفوض من المجلس الأعلى للقوات المسلحة بهذه التصريحات الكئيبة والضارة، لأن الأمن القومي المصري يرتبط بشكل لا ينفصم بالأمن القومي العربي والإقليمي، ويمتد حتى مضيق ملقا. تلك هي حقائق الجغرافيا والتاريخ وهي تدلل على أن رئيس الوزراء لا علاقة له بالسياسة التي ترفض ممارساتها الصحيحة إلقاء الكلمات جزافاً. وإن إدارة أو المشاركة في صنع السياسة تختلف بالقطع عن إلقاء محاضرة في الجامعة، أو عمادة كلية، أو حتى رئاسة جامعة. إنها تحتاج بجانب النزاهة والشرف إلى خبرة سياسية عميقة وفهم استراتيجي يتجاوز مجرد القدرة على المجاملة المهذبة إلى تحديد التخوم ووزن الكلمات بميزان الذهب والانطلاق من معرفة الجغرافيا والتاريخ والتسلح بالعزة الوطنية أياً كان من نواجهه، دولاً كانت أم مجرد مشيخات تعيش مرحلة ما قبل الدولة.