انهيار الرأسمالية... المرحلة الأولى  الإنهيار المالي (1/3)
ديمتري أورولوف ديمتري أورولوف

انهيار الرأسمالية... المرحلة الأولى الإنهيار المالي (1/3)

كان يدور تخصصي ولسوء الحظ حول التنبؤ بالانهيار، فأسلوبي يعتمد على المقارنة فلقد شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي وكذلك لدي اطلاع كاف على تفاصيل الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية .

فكمهندس من الطبيعي أن أميل في دراستي إلى البحث عن التفسيرات المادية لعملية الانهيار بالمقارنة مع التفسيرات الثقافية والسياسية والاقتصادية، مما دعاني إلى ابتكار تفسير جيد لإنهيار الاتحاد السوفياتي وذلك أعقاب زيادة انتاج النفط، فما حصل أواخر ثمانينيات القرن الماضي هو انتاج روسيا من النفط بلغ ذروة غير مسبوقة وتزامن مع ذلك ظهور مقاطعات نفطية جديدة في الغرب مثل «بحر الشمال» في المملكة المتحدة والنرويج و»برودو باي» في ألاسكا الأمر الذي خفض أسعار النفط وبشكل كبير في الأسواق العالمية مما أدى إلى انخفاض عائدات الاتحاد السوفياتي في الوقت الذي بقيت شهيتهم للبضائع المستوردة على حالها، فغرقت أكثر فأكثر في الديون، مما شكل عليه أعباء لم تعد بمقدورها تحمل المزيد من المديونية، فلمجرد رفض المقرضين الدوليين منحها المزيد من القرو ض  فسيصبح الاتحاد السوفياتي خارج اللعبة .

فما يحصل في الولايات المتحدة أمر مشابه لما حصل في الاتحاد السوفياتي مع وجود بعض الاستثناءات، فالولايات المتحدة تستهلك 25% من الانتاج العالمي للنفط وتستورد ما يفوق ثلثي ذلك .

كان من المقرر الوصول إلى ذروة الإنتاج النفطي بداية القرن الحالي وحينها حاولت أن أخمن متى ستنهار الولايات المتحدة، فتبين لي فيما بعد أن تقديري لم يكن صائباً فلقد تأخر قرابة عقد كامل .

كلما زادت أسعار النفط سنتجه نحو الركود، وإن الاقتصاد حينها سيبدأ بالانكماش وأي اقتصاد منكمش لا يستطيع أن يدوم بشكل مستمر في ظل زيادة مستوى المديونية، وسوف يأتي وقت نكون فيه غير قادرين على تمويل واردات النفط  وهذه الحالة تسمى بــ «نقطة التحول» فحينها لن يبقى شيء على ما هو عليه.

فإذا خفضت الولايات المتحدة من استهلاكها من الطاقة - مع العلم أنها تستهلك كميات كبيرة من الطاقة  وبصورة لا يمكن تصديقها – فإنها غير قادرة على تجاوز أزمة الطاقة، فحينها سوف لن تروا هذا البلد مثلما كنا نراه من قبل .

فالذي يقوي الاقتصاد هو النفط  وبدوره أي اقتصاد يعتمد على النفط  سيزيد من مستويات المديونية وبشكل كبير، فأي انخفاض كبير في استهلاك النفط سيسبب انهياراً مالياً .

فالكثيرون لا يعون بأن ليس من الممكن أن تؤدي هذه النتائج إلى عهد البراري غير المأهولة،فأنا اتفق مع «جون مايكل غرير» بأن اسطورة «نهاية العالم» ليس لها أي وجود في ظل هذا الوضع .

فتجربة الاتحاد السوفياتي ستساعدنا وبشكل كبير لأنها ستعرض لنا بالإضافة إلى استمرار الحياة بعد الانهيار فإنها ستعرض ما هي الطريقة التي استمرت بها الجياة .

فأنا على يقين بأنه لا يوجد أي قدر من التحول الثقافي سيساعدنا في تأمين مختلف الجوانب الرئيسية لهذه الثقافة مثل : مجتمع السيارات ،حياة المدن ، المتاجر الكبرى، الشركات التي تديرها الحكومة، الامبراطوريات العالمية، التهرب المالي .

وعلى الجانب الآخر فأنا على يقين تام بأن لا شيء أقل من تحول ثقافي عميق سيسمح لعدد كبير من البشر الحفاظ على أسطح بيوتهم فوق رؤسهم والطعام على موائدهم.

فمن الضروري أن نبدأ بترك العادات الثقافية البالية وأن نصبح أكثر قدرة على التأقلم مع الأوضاع الجديدة، فقبل بضع سنوات كان موقفي هو مشاهدة تطور الأحداث فحسب، ولكن مع سير الأحداث والتي بدت سريعة جداً جعلني أشعر بأن أسوأ ما نفعله في حياتنا هذه بأن نقول إن كل شيء على ما يرام. فأحياناً الصورة تبدو واضحة أكثر مما نظن، ففي كانون الثاني عام 2008 نشرت مقالاً عن «المراحل الخمسة لأنهيار الرأسمالية» وحينها قلت بأننا في منتصف الانهيار المالي .

فإذا قامت الحكومة الأمريكية بإقراض البنوك بما يفوق 200مليار دولار لتحافظ على النظام وتجنبه الانهيار، فحينها مصطلح»الأزمة» سيكون غير منصف ، فللحفاظ على هذه اللعبة على الحكومة الأمريكية أن تكون قادرة على بيع الديون التي على عاتقها وهل تظن بأن العالم بأسره  سوف يقبل على شراء تريونات الدولارات من الديون الجديدة ؟ مع العلم أنها تستعمل لدعم الاقتصاد المنكمش أصلاً .

فيما إذا  لم يستطيعوا بيع تلك الديون، فإنهم حينها سيحولونها إلى نقود عن طريق طباعة النقود ، فيؤدي ذلك إلى تضخم مفرط ، فلا مجال للمماحكة حينها وعلينا تسمية ما يحصل بـ»الانهيار المالي».

فأي حسبة بسيطة تلت الانهيار المالي تجعلنا نؤكد بأن لا مجال للمماحكة والمراوغة فالمرحلة الأولى تشبه إلى حد كبير بمرحلة «الحمل» وأما مرحلتا الانهيار السياسي والتجاري ستتبعان الانهيار المالي .

فالشحن العالمي يوشك أن يتوقف، وإن تجارة التجزئة تمر بفترة سيئة للغاية وإن العديد من المتاجر سوف تغلق أبوابها ، فالدول بدأت تعاني من نقص هائل في الميزانية، وتقوم بتسريح العمال وبدأت بتقليص خططها التنموية وكذلك بدأت تلح على الحكومة الفدرالية لإنقاذها من الانهيار.

مراقبة التحولات الحقيقية هي شيء مثير للإعجاب، فهناك أفكار محددة تراها سخيفة ومنافية للعقل في لحظة ما ،ولكن بعد فترة محددة تراها وكأنها حكم تقليدية وأكبر مثال على ذلك هو الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفييتي ورؤية بوريس يلتسن كيف يصعد إلى قمة الدبابة ، فمن الآن وصاعداً سوف نسمي الاتحاد السوفييتي بالاتحاد السوفياتي سابقاً . فالولايات المتحدة لم تجرب حتى الآن شيئاً ذا أهمية، فلقد مرت بهزات بسيطة مثل بعض سندات الرهن العقاري .

فهل لدى الحكومة أي خطة لإنقاذنا جميعاً؟  كل تلك الإنجازات الرئيسية لم تأت بعد، فمن لم يفعل شيئاً حتى الآن يبدو عليه أن الوقت قد تأخر كثيراً للبدء بالتخطيط .

لايبدو ذلك جديراً بالاهتمام بالنسبة إلينا ونحن جالسيو دون عمل ننتظر الحدث السعيد، ومن الأفضل بالنسبة لنا أن نقبل حماقاتهم قبل أن يفعلوا هم ذلك وأن نحافظ على مسافة آمنة أمام الرأي السائد، فإذا فعلنا ذلك فمن الممكن ذات يوم أننا سننجح في إيجاد السبل للتعامل مع الأزمة ومن الممكن أن نتعلم بعض الأشياء التي تجعلنا نتفادى الانهيار المالي، ومن التعلم على العيش من خلال عدم الحاجة إلى مال أكثر .

من الممكن أن نخلق ترتيبات معيشية بديلة وشيكات توزيع لكل ما نحتاجه قبل حدوث الانهيار المالي، وأن ننظم أنفسنا من خلال مجتمعات «الحكم الذاتي» والتي بمقدورها توفير أمانها الذاتي في فترة الانهيار السياسي و وضع كل هذه الخطوات مع بعضها سوف يضعنا في وضع ثقافي وسياسي آمن ذاتياً.

الآلية الهامة بالنسبة للانهيار المالي واضحة قبل هذه اللحظة، فالأهرامات الإئتمانية تصبح كبيوت كرتونية واهية، والرد على المصطلح التقني «تقليص المديونية» هو «خطة الإنقاذ». ستقوم الحكومة الفدرالية بإنقاذ البنوك وشركات التأمين وشركات السيارات .

نسمي هذا الإنقاذ كمن يدور في حلقة مفرغة، فنحن نتجه إلى الإقتراض أسرع فأسرع لكي لا نسقط وننجو، فمصطلح «الحلقة المفرغة» في الوقع هو استعارة جيدة .

فتخيل ماذا سيحصل لك عندما تذهب إلى صالة رياضية وتركب جهاز المشي وتتصارع مع السرعة فكلما زدت السرعة فإنك ستبذل جهداً ولكنك ستبقى في محلك، وستتعب وتتعثر وتقع وستجد نفسك تحلق إلى الوراء .

هناك سؤال يجب طرحه ، من أين سنأتي بالقروض من أجل خطة الإنقاذ ؟

الناس سيقولون بأنهم سوف يأخذونها من جيوب دافعي الضرائب، فكل الضرائب المستلمة من الضرائب الفدرالية بشكل أوتوماتيكي سترتفع وبشكل كبير بمقدار بضعة مليارات، وهذا يجعلنا نطرح بعض الأسئلة، ففي هذه الأثناء من سيكون دافع الضرائب الذي سيقترض المال؟ هل سنأخذه من أمريكي آخر؟ كلا، لأن مدخراتهم منخفضة بشكل كبير، وخاصة في هذه الفترة، فالكميات القليلة التي يتم توفيرها تأتي من قيمة أسهم الإسكان المتراجعة أصلاً وكذلك من الأسهم والسندات ومن خلال الأرصدة المتبادلة حيث تنخفض إلى الثلث، فقيمة هذه الاستثمارات تتحطم شيئاً فشيئاً، وفي حال إذا تخلصنا من هذه الاستثمارات لزيادة النقد من أجل تمويل الديون الجديدة، فإن الأمر سيجعلها تتحطم وبشكل أسرع .

في الحقيقة إننا ننقل المال من جيب إلى جيب ولذلك يجب أن تكون خطة الإنقاذ ممولة من الأجانب حصراً .

فإذا قرر الأجانب أن لا يودعوا أي شيء إضافي من مدخراتهم ، فالطريقة الوحيدة هي طباعة النقد ، فالسؤال الثاني يكون ما هي كمية النقود التي سنطبعها ؟

إن الغرض من عمليات الإنقاذ هو توفير سيولة للشركات المتعسرة لتجنب أثر الإقتراض ، ولفهم ما يعني ذلك ،علينا فهم بأن لكل دولار فعلي داخل الاقتصاد كمعبر عن أصل حقيقي  يوجد مقابله ما يفوق 13 دولار من الأموال المقرضة فيما لو استمر الدين.

فإذا كان ائتماننا بلغ حده الأقصى وفي الوقت  نفسه الاقتصاد ينمو فإنه أمر سيئ للغاية، ولكن الاقتصاد الأمريكي ينكمش بسبب الصدمة النفطية ، فالاقتصادات الصغيرة لا تستطيع تحمل ذلك لأن ديونها أكثر، فإذا بدأت عملية فساد المديونية المعتادة مرة واحدة فمن الصعب أن تتوقف ، وأن إعادة «تقليص المديونية» إلى مجراه سينخفض بما يفوق عن 1300%،ولطباعة نقد لذلك الدين الكثير يتطلب ما يفوق 1300% تضخم ، وإذا حصل ذلك مرة واحدة فمن الصعب جداً أن  تتوقف.

الولايات المتحدة لن تصرح عن تخلفها عن سداد ديونها السيادية ، مثلما فعل الاتحاد السوفياتي عام 1990 .

فلكي تخرج الولايات المتحدة من الإفلاس ولسداد ديونها الوطنية  بدأت بطباعة الكثير من الدولارات ، ولكن سيكون من خلال نقود ورقية لا قيمة فعلية لها ، وستؤدي إلى إفلاس الدائنين الدوليين في هذه العملية الأمر الذي سيسبب الكثير من الألم للناس وخاصة لدى هؤلاء الأشخاص الذين اعتادوا على تملك كميات كثيرة من المال، فإذا قامت الولايات المتحدة مرة واحدة بكسب العملة الأجنبية فالواردات حينها ستصبح نادرة جداً .

 ترجمة: مشعل شيخ نور

• عن موقع end of capitalism