المشهد العراقي: من الاستبداد إلى المحاصصة، إلى...؟ ( 1/2)

المشهد العراقي: من الاستبداد إلى المحاصصة، إلى...؟ ( 1/2)

أكدنا ونؤكد الآن أيضاً أن ما جرى ويجري هو استهداف للشعب العراقي في حاضره ومستقبله، وحتى ماضيه، ولن يكون في مصلحة أي جزء من أجزاء الشعب العراقي، والشواهد على ما نقول باتت موضع اعتراف حتى من جانب الاحتلال نفسه، وأحياناً من بعض السائرين في ركابه. وتواصل نضالنا ضد المحتل والمتواطئين المحليين معه أفراداً وجماعات وأحزاباً.

وعلى الرغم من انسحاب القوات الأمريكية المحتلة من العراق في 31 /12/2011، فإن ذيولها وتأثيراتها لا تزال باقية حتى الآن..تواجد اكبر سفارة أمريكية في العالم يصل تعداد العاملين فيها إلى 16000 فرد إضافة إلى عدد من القنصليات، اتفاقية التعاون الاستراتيجي التي تمنح أمريكا دوراً جوهرياً في رسم سياسة العراق الداخلية والخارجية والاقتصادية والعسكرية، والتي تعتبر بمثابة احتلال ناعم لا تزال مستمرة وتكبّل العراق وترهق كاهله، بل وتجعله من الناحية الفعلية وتحت باب «التعاون والصداقة «واقعاً تحت الهيمنة الأمريكية. وإذا كانت قد انتعشت خلال فترة الاحتلال السجون السرية وتفشت ظاهرة التعذيب على نحو مريع، وهي ظاهرة كانت مستشرية في العراق في عهد النظام السابق، وانتشرت الفرق المسلحة والجماعات الإرهابية وسادت أعمال الخطف والاختفاء القسري والجريمة المنظمة بشكل هائل، ومارست الشركات الأمنية أعمالاً إجرامية منظمة، فإن الصراع بين الكتل السياسية أخذ هو الأخر منحى الاغتيالات والتصفيات وما قضية الهاشمي إلا واحدة من عشرات القضايا التي تؤشر على هذا المنحى الخطير. فلا يزال يجري كل ذلك الإجرام والنهب برعاية أمريكية مباشرة.

إن غياب الديمقراطية الحقيقية الذي شجّع على بروز الهوّيات الفرعية، وبدلاً من دولة واحدة متعددة الهوّيات وموحّدة التوجه والانتماء، وقفنا أمام سياسة المتاجرة بالهوّيات الفرعية والمظلوميات المزعومة وأحقية هذه الطائفة أو تلك بالحكم . أما في واقع الحال فلا يوجد حكم شيعي أو سني في العراق فالشيعة لا يحكمون في العراق اليوم مثلما أن السنّة لم يحكموا من قبل، هناك شيعة الحكم وهم ينتمون إلى أحزاب شيعية، أما الشيعة كطائفة، فلا علاقة لها بهم، وهم حزب سياسي مثل بقية الأحزاب مثلما هو حزب البعث، في حين أن الشيعة ليسوا متجانسين وليس لهم رأي سياسي واحد أو موحد أو خلفية آيديولوجية واحدة ولا أحد يزعم أو يستطيع الإدعاء أنه يمثلهم مهما بلغ من نفوذ سواءً كان آية الله السيستاني أو غيره أو من شيعة الحكم أو غيرهم، وهم طائفة كبيرة متوزّعة على القوميات قسمها الساحق من العرب والقسم الآخر من الكرد والتركمان، وبينهم شيوعيون وقوميون عرب، بل إن الغالبية الساحقة من أعضاء حزب البعث كانوا من الشيعة الذين كان عددهم يقارب 68% من أعضائه، والسنّة مثل الشيعة لا أحد يمثلهم لا في السابق ولا في الحاضر، حتى وإن تعكّز البعض عليهم أو استغل بعضهم بالاتجاه الذي يريده، فإنهم كتلة كبيرة وطائفة واسعة موزّعة على عموم سكان العراق وغالبيتهم عرب والغالبية من الأكراد والتركمان سنّة، وهم كذلك لديهم توجهات سياسية وفكرية متنوّعة ومختلفة وبين الشيعة والسنّة: متدينون وغير متدينين مؤمنون وملحدون، يساريون ويمينيون ، اشتراكيون وليبراليون، تقدميون ورجعيون، وهكذا، لذلك لا يمكن أخذهم بالجملة وكأنهم قطاع واحد موحد ومتجانس.

لهذا من الخطأ القول إن السنّة حكموا العراق، واليوم جاء دور الشيعة، وهو خطأ آخر، ولعلّ من حكم باسم هذه الفئة أو تلك وباسم العرب أو غيرهم لم يكونوا سوى حكّام حاولوا تسخير كل شيء بما فيها الطوائف والقوميات وحتى الأديان، لخدمة مصالحهم، واستخدموا مختلف الأساليب للبقاء في السلطة. وقد انسحبت المتاجرة بالطائفية والأثنية حتى على النفط العراقي، السلعة التي شكّلت المورد الريعي للاقتصاد العراقي غير المنتج، إذ يتم تهريبها من الشمال والجنوب والتلاعب بها وتوقيع عقود لا يرتقي بعضها إلى المعايير الدولية، لاسيما تحكّم الشركات بحجم الانتاج، كما أن بعضها، لاسيما في إربيل، كانت عقود شراكة، في حين أن بغداد كانت عقودها عقود خدمة، وهناك اختلاف حول طبيعة وحقوق ومستقبل تلك العقود، ناهيكم عن خبرة مفاوضة الشركات العملاقة وأساليبها المتنوّعة. في وقت تم فيه تجاهل  تطلّعات غالبية العراقيين في الأمن والكرامة والحرية واستعادة هيبة الدولة وتحسين الوضع المعاشي بإعادة الخدمات الصحية والتعليمية والمواصلات وتأمين الحصول على عمل مناسب وتأمين الضمان الاجتماعي والتقاعد والقضاء على البطالة وغير ذلك من جوانب الرفاه الاجتماعي.

أذا كان نصف العراق  لواشنطن ، حتى بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، فإن نصفه الآخر لطهران، ويحاول بعض الساسة اللعب في منطقة الوسط بين أمريكا وايران، وهو ما سعى إليه نوري المالكي رئيس الوزراء ولا يزال حتى الآن .أما حظ سورية فقد كان حضورها ضعيفاً في المشهد العراقي، وعشية عودة المالكي للوزارة كان قد دخل بمعركة معها واتهمها فيها بالتآمر والتفجير وإرسال الإرهابيين، لكنه وبحكم ضغوط إيرانية جرت تسوية الأمر معها بعد أن وافقت الأخيرة على التخلي عن علاوي ودعم المالكي، لاعتبارات اقتنعت فيها، ولمصلحتها، وهو ما يفسّر موقف بغداد اليوم القريب من إيران إزاء الأزمة السورية .

وإذا كان جميع رموز هذه الكتل اليوم يزعم أنه ضد نظام المحاصصة الطائفية الاثنية ويريد أن يغسل يديه منها، حتى وإن انغمس فيها من رأسه حتى أخمص قدميه، فلماذا إذاً لم يتفق الفرقاء لوضع حد لهذا النظام والعودة إلى الشعب العراقي عبر الإعلان عن فترة انتقالية لا تتجاوز فترة العام الواحد،  يتم خلالها إجراء انتخابات حقيقية حرة تفضي الى تشكيل برلمان وطني عراقي يصيغ دستوراً جديداً للبلاد. 

إن الطائفية مثل توءمها العنصرية،استئصالية، إلغائية، تناحرية ، عدائية. أما المدافعون عن النظام الطائفي الاثني الفاسد الحاكم  فهم مثل المدافعين عن النظام البعثي الفاشي المقبور، كلاهما وجهان لعملة واحدة، عنوانها القتل والنهب والفساد والتفريط بالثروات الوطنية والتعبية للامبريالية الامريكية.

إن مشروع تقسيم العراق لا يزال قائماً , لكن التقسيم لا يتم دفعة واحدة، ولعل جميع اللاعبين السياسيين، ولاسيما الدوليين لا يريدونه حالياً فدول الجوار الإقليمي بما فيها إيران وتركيا وسورية والمملكة العربية السعودية والأردن، والدول الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا تؤيده، بل تخشى من انعكاساته السلبية على دول المنطقة، وإن كان بعضهم وعلى رأسهم « إسرائيل» يميل إليه على نحو تدريجي وبطيء بحيث يصبح الأمر الواقع واقعاً.

باستثناء فيدرالية إقليم كردستان، وهي جزء من اشكالية تاريخية لم تتحقق حتى الآن فيدراليات أخرى في البصرة أو للجنوب أو فيدراليات لصلاح الدين أو الأنبار أو ديالى أو فيدرالية للسنّة، كما طرح رئيس البرلمان العراقي الحالي أسامة النجيفي في تصريح له من واشنطن نهاية العام المنصرم 2011 وذلك بمبرر التهميش وعدم المشاركة..

الفيدرالية الكردية هي امتداد لحقوق الكرد ومطالبهم (وقد اعترف دستور العام 1958 بشراكة العرب والكرد في الوطن العراقي. أما دستور العام 1970 فقد اعترف بأن الشعب العراقي مؤلف من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية) وبعد الانسحاب الحكومي من إقليم كردستان في أواخر العام 1991 وإثر حرب الخليج وغزو الكويت، أعلنت الجبهة الكردستانية ملء الفراغ وأجريت انتخابات في العام 1992 بدعم دولي تكرس بعد ذلك في منطقة الملاذ الآمن، لكن قتالاً اندلع بين الفريقين الكرديين: (الاتحاد الوطني الكردستاني (برئاسة جلال الطالباني) والحزب الديمقراطي الكردستاني( برئاسة مسعود البارزاني) شكك في إمكانية استمرار الفيدرالية الكردية التي أعلنت من طرف واحد في 4 تشرين الأول (اكتوبر) 1992.

وعند إعلان الاتفاق بينهما 1998 وفيما بعد 1999-2000 تعززت إمكانية التقارب ولاحقاً توحيد الادارتين، وكان فريق الطالباني (السليمانية) قد تحالف مع طهران ضد (إربيل)، في حين تحالف فريق البارزاني بغداد ضد الطالباني حيث تدخل الجيش العراقي لمصلحته لطرد غريمه من إربيل في 31 آب (اغسطس) 1996.

• كاتب عراقي