ما تحت السطح
ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

ما تحت السطح

الهاجس الأكبر الذي يؤرق عصابات احتلال فلسطين هو الخشية من أن يحل يوم اقتلاعهم. عبّر بن جوريون عن ذلك حينما قال ما معناه «إن أول هزيمة عسكرية لإسرائيل تعني نهايتها». لذلك كانت حروبهم دائماً استباقية وخارج أراضي فلسطين المحتلة لاجهاض القوة العربية، وذلك باستثناء حرب أكتوبر 1973 التي اغتال السادات نتائجها.

عبر شيمون بيريز عن الهاجس بعد اتفاقيات الصلح التي عقدها السادات. إذ قال ما معناه «إن هذه الاتفاقيات لا تعدو أن تكون مجرد أوراق يمكن أن يأتي من المصريين بعد جيلين أو ثلاثة من يمزقها».

هاجس الخوف والقلق الدائم هو أحد مكونات الوجدان اليهودي- الإسرائيلي الذي تشكل بفعل الطبيعة الطفيلية الملازمة لهم تاريخياً وممارساتهم المنحطة المجافية لأي قيم أو أخلاق أو ضمير. لذلك كان حرصهم على إرساء وقائع على الأرض لتجاوز وهن الكلمات المسطورة على الورق. فكان النص على التطبيع لتأكيد وتثبيت ما يأملون أن يكون سلاماً دائماً رغم أنه في جوهره مجرد استسلام.

كان مشروع «الشرق الأوسط الجديد» خطوة لازمة من وجهة نظر العدو الصهيوني. إذ لم يتمكن التطبيع من تجاوز النخب الطبقية والسياسية الحاكمة إلى المحيط الشعبي الرافض. وهو المشروع الذي يقوم على تكريس وقائع كبرى على الأرض تضمن استقرار وبقاء هذا الكيان وارساء هيمنته على الاقليم برمته.

التقدم والتراجع:

عقب نكسة 1967 تصورت العصابات الصهيونية والغرب الامبريالي وقوى الرجعية العربية أن الأمور قد استتبت لمصلحتهم. لكن الاستقبال التاريخي للرئيس جمال عبد الناصر في الخرطوم، ثم اللاءات الثلاث، كانت رداً حاسماً عليهم. وقطعت كل البلدان الاشتراكية (باستثناء رومانيا) وكذا غالبية البلدان الافريقية وبلدان أخرى علاقاتها مع كيان العدو، وتعزز ذلك بقرار الأمم المتحدة باعتبار الصهيونية مساوية للعنصرية. وأحدثت هذه الأمور وإن بشكل غير مباشر اهتزازاً لشرعية هذا الكيان.

كان الصلح المصري ثم الأردني ثم مدريد والدار البيضاء ثم أوسلو وما تلاها خطوات هائلة في التراجع، حفز العدو على إعلان مشروعه «الشرق الأوسط الجديد» بل وصل الأمر إلى قيام جماعات حقوق الانسان والمجتمع المدني الممولة امبريالياً وصهيونياً من كل من مصر وفلسطين والأردن تحديداً بإجهاض الجهود الهائلة التي بذلها كل من فاروق أبو عيسى الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، ومحمد فائق الوزير المصري السابق في نظام جمال عبد الناصر، لتعبئة الوفود الافريقية والآسيوية وغيرها في مؤتمر «دربان» بجنوب أفريقيا لإصدار توصية إلى الأمم المتحدة لإعادة إصدار قرارها الملغى بمساواة الصهيونية بالعنصرية.

خطوات إلى الأمام:

مرة أخرى حدثت الاستدارة الى الأمام. تشهد المنطقة (بعد وصولها إلى القاع) صعوداً جديداً، وبداية لحالة نوعية جديدة. تتراجع الامبريالية والصهيونية على الوجه الذي يلمسه الجميع (فيما عدا العملاء في المنطقة). يعيش النظام الرأسمالي أزمة لا خروج منها. تترنح الرأسمالية ولا يحول دون دفنها سوى عدم استكمال الجاهزية لقوى الثورة، وإن كان ميزان القوى العالمي يتعدل بوتيرة سريعة، وتجري اصطفافات عالمية جديدة وراسخة لحد كبير على طريق حسم الأمر. لا تعدو أن تكون المسألة مسألة وقت وعمل جدي حاسم. وهو ما يخلق إمكانيات وظروف مواتية لتقدم فعال لقوى التغيير العربية.

محاولات مستميتة:

يدرك العدو الصهيو– امبريالي طبيعة التطورات التي تجري. من هنا تتم محاولات مستميتة من هذا العدو لخلق أزمات ومشاكل لإغراق كل البلدان العربية وإيران، تعيق التطورات الايجابية. إن نظرة خاطفة لما يجري في لبنان وفلسطين والسودان ومصر... الخ من العدو الخارجي والعملاء من العرب هو ما يترجم حالة اللهاث والتشبث والضراوة لوقف المسيرة تجاه انتصار التحرر والتقدم وانهاء الصراع ضد العصابات التي تحتل فلسطين بانهاء وجود هذا الكيان.

هنا تم طرح مستشار «الأمن القومي الإسرائيلي» السابق، اللواء احتياط جيورا أيلاند لمشروعه الخاص بمقايضات لأراض في الضفة الغربية وسيناء والنقب في إطار صفقة غريبة بدعوى حل الصراع. وهذا الطرح هو خطوة على طريق «الشرق الأوسط الجديد» لتأبيد وجود كيان العدو وتحقيق سيطرته. والأدق محاولة تدارك الوضع قبل أن تفلت الأمور تماماً، بعد أن أصبح استمرار وجود هذا الكيان موضع شك.

يتصور من ينظرون بسطحية إلى الواقع العربي والإقليمي الراهن، وحالة السعار التي تتلبس القوى المعادية في الخارج أو الداخل، والى الممارسات العلنية والخفية المعادية، أن هذه القوى قادرة على معاودة الصعود من جديد.

من كان يتصور أنه في ظل عنفوان نظام شاه ايران وأجهزة أمنه الجرارة ، ودعمه الأمريكي غير المحدود بينما التفاعلات تجري تحت السطح لتنتج الثورة التي لم يتمكن الأمريكيون بكل ما يمتلكونه من امكانيات التنبؤ بها أو التصدي لها؟

تتداخل الوقائع والأحداث وقد نرى في سياق التقدم العام بعض تراجعات. يجري كر وفر. ينبغي ألا يحدث ذلك تشوشا في رؤيتنا أو يسلمنا للتراخي. النظرة لا يجب أن تقتصر على ما فوق السطح. ما تحت السطح هو الأهم. لذا يتحتم رصده والتفاعل معه. أن نعبئ قوانا دون يأس أو وهن فالانتصار لا يتم دون جهود وتضحيات.