تصاعد احتمالات الاشتباك مع الصين
21/10/2011، «إنفورميشن كليرينغ هاوس»- ما تزال الولايات المتحدة تدير سياساتها المالية بنظرة أحادية الجانب، مثلما تدير شؤون سياستها الخارجية. ففي الأسبوع الفائت، لم يستشر مدير مصرف الاحتياطي الفيدرالي، بن برنانكه، حلفاءه في صندوق النقد الدولي ودول مجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، عندما أعلن عن نيته استئناف العمل ببرنامج شراء السندات (التسهيلات الكمية، Quantitative Easing).
ترجمة: موفق اسماعيل
وبأقل من البساطة، أصدر مرسومه العالي، ومشى! دون أن يعير أدنى اهتمام لحقيقة أن سياسة «الاحتياطي الفيدرالي» ستغمر أسواقهم الناشئة برأسمال منخفض القيمة يرفع قيمة عملات دولهم، ويلهب التضخم في اقتصاداتهم. سائراً بذلك على نهج جون كوناللي، سكرتير الخزينة العامة الأسبق، الذي كان يمازح، بقدر من السخرية، جمع وزراء مالية دول اليورو بالقول «الدولار عملتنا، لكنه مشكلتكم».
يمكن إجمال تقرير برنانكه الخامس عشر بعبارة واحدة: التضخم منخفض جداً، والبطالة عالية جداً! أي أن برنانكه لن يقعد مكتوف اليدين منتظراً إقرار الكونغرس بحاجة الاقتصاد إلى الإسناد. بل سيزيد الضغط على الدولار، لخفض قيمته، حتى تصل نسبة التضخم إلى 2%، داعماً بذلك إمكانية تخفيض معدل البطالة، خافضاً عجز الحساب الجاري، ومن ثَم يشب الاقتصاد منتعشاً.
يلخص الاقتصادي إدوارد هيو ما يجري، كما يلي:
«تتسبب البطالة في الولايات المتحدة (التي وصلت إلى نسبة 9.6، حالياً، مرشحة للارتفاع إلى 10%، في نهاية العام) بمشاكل عويصة لإدارة أوباما. كما أن سوق العمل ونظام الإعانات ليسا مجهزين لتحمل هذه النسب من البطالة، ولا حتى لفترة قصيرة من الزمن. وبما أن نسبة البطالة في اليابان تبلغ 5.1%، وفي ألمانيا دون 8%، يسأل آل واشنطن أنفسهم لماذا تتكبد الولايات المتحدة وزر بطالة عالية جداً، وعجزٍ مالي نقدي، من أجل الحفاظ على نظام «بريتون وودذ» وعلى حالة احتياطي العملات بالدولار؟! ويبدو لي أن الإدارة الأمريكية قررت تخفيض معدلات البطالة، وسد العجز في حسابها الجاري، ولا وسيلة لديها، لتحقيق ذلك، إلا تخفيض قيمة الدولار، قسراً. وبهذه الطريقة ستكون المعامل الأمريكية، لا الألمانية ولا اليابانية، هي التي تزغرد فرحاً بتدفق الطلبيات الجديدة نحوها، نتيجة انتعاش الطلب في جميع الأسواق النشطة».
توصل برنانكه لنفس نتائج إدوارد هيو، ولكن هذا لا يعني أن إستراتيجيته لن تلحق الضرر بحلفاء الولايات المتحدة. بل على العكس، لأن «التسهيلات الكمية»، برنامج إفقاره لجيرانه، سيجبر شركاءه التجاريين على اتخاذ إجراءات لضبط رؤوس الأموال، إلى جانب إجراءات أخرى حمائية، من أجل الحفاظ على استقرار الأسعار. كما سيؤدي إلى انخفاض قدرتهم على المنافسة، فيما تتصارع أكبر اقتصادات العالم على الاستئثار بالحصة الأكبر من أسواق التصدير. ومن شأن هذا الصدام الوشيك أن يؤدي إلى تفكيك النظام التجاري السائد، والارتداد الحاد عن ثلاثين عام من عمر العولمة.
لكن أكبر معضلة يواجهها برنانكه هي الصين، التي كانت شريكاً محبباً للولايات المتحدة حينما كانت تتخم الخزائن العامة، وترفع الاستهلاك إلى مستويات تاريخية تملأ خزائن وول ستريت. أما اليوم، فيرغب برنانكه بتغيير الوضع، لأن شراء الدين الأمريكي يمنع بنك الاحتياطي الفيدرالي من تنفيذ سياسته النقدية. ولسوء حظه، لا تبدي الصين أي تعاون! وتواصل، بسرعة، تكديس احتياطات النقد الأجنبي (ارتفع احتياطي الصين من العملات الأجنبية إلى 2.65 تريليون دولار، في الربع الثالث من هذا العام)، لكي تبقي على ارتباط عملتها بالدولار، مما يرفع عجز الحساب الجاري الأمريكي إلى مستويات ما قبل الأزمة. وفي ذات الوقت، يصر برنانكه وشركاه على إقناع الصين بضرورة زيادة قيمة عملتها لتضييق الهوة، لأن الاختلال المتسع في الميزان التجاري يدفع العالم نحو الدخول في أزمة أخرى.
بمعنى آخر، إذا استمر العجز التجاري بالتزايد، سوف يستحيل على الاحتياطي الفيدرالي «تشبيب» الاقتصاد الأمريكي، داخلياً. وسوف تغور كل مبالغ التحفيز في بلاليع الصرف.
حالياً، تمتص الصين حصة الأسد من حجم الطلب العالمي، من خلال عرضها كافة أنواع المنتجات بأسعار أقل من مثيلاتها الأمريكية. وهذا هو، بالضبط، أثر الارتباط بالدولار، الذي يمنح الصين أفضليةً غير منصفة لمنافسيها. وتساعد العملة العائمة بشكل حر على توسيع رقعة اللعبة (حتى إذا كانت سوق العمل الأمريكية تتنافس مع أكثر البلاد انخفاضاً في أجور اليد العاملة). وما تصريح برنانكه الأخير إلا رشقة أولى تطلق باتجاه الصين، والمزيد آتٍ، خاصة وأن لقاء مجموعة العشرين، يمنح سكرتير الخزينة العامة، تيموثي غيثنر، فرصة ممتازة لإدانة التلاعب بالنقد العالمي وتسليط اللوم على الصين. ويتوقع منه الكثيرون إصدار بيان متشدد في طلبه تغيير السياسة المتبعة. وهو ما أكدته وكالة رويترز، قبل أيام، بنقلها عن مسؤول رفيع في الخزانة الأمريكية قوله «ما تريده الولايات المتحدة من مسؤولي الموارد المالية في مجموعة العشرين الالتزام بتركها قوى السوق تحدد قيم العملات...» (أي أن الولايات المتحدة تطلب الالتزام برفع قيم العملات مقابل الدولار- حسب تعليق رويترز).
لا «الاحتياطي الفيدرالي» يتمنى اندلاع حرب تجارية شاملة مع الصين، ولا إدارة أوباما. إنما يفضّلان رؤية الصين «تؤكد موقعها في النظام العالمي» (حسب التعبير الدبلوماسي الأمريكي الدارج). لكن هذا يعني أن تساوم الصين على ما تعتبره قضية سيادة وطنية عليا. وهذه معضلة جدية، فالصين أمة عزيزة ذات إحساس عال بالكرامة، تأبى أن يُملى عليها ماذا تفعل. في حين يسير النظام العالمي بطريقة مغايرة، حيث، خلف زيف واجهة السوق الحرة والمؤسسات الدولية، يقبع نظام امبريالي تسيره واشنطن. مما يعني أن الصين أمام خيارين، إما أن تنحني للضغط الأمريكي وتسير في ركبها، أو أن ترمي مطالب واشنطن خلف ظهرها وتواصل مسيرتها، مقاومةً الضغوط، وفي هذه الحالة سوف تتردى، حتى قاع الحضيض، علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتتزايد احتمالات وقوع الاشتباك.