ليس بالأمن وحده تستمر نظم الحكم
تلقت الحكومة المصرية صفعة جديدة، إذ أصدرت المحكمة الإدارية العليا، وهى أرفع هيئة قضائية في القضاء المختص بنظر القضايا التي تكون الحكومة طرفاً فيها، حكماً بإلغاء وجود الحرس الجامعي بالجامعات المصرية. وهذا الحرس يتبع وزارة الداخلية ويباشر عمله داخل الحرم الجامعي رغم أن قانون الجامعات يحظر وجود الشرطة داخل أسوار الجامعة. وكان الحرس حتى سبعينيات القرن الماضي لا يوجد سوى عند أبواب الجامعات كما هو متبع في كل المقرات العامة في الدولة.
تفاقم الوضع منذ السبعينيات بتأسيس هذا الحرس وانتشاره المكثف داخل الحرم الجامعي ومباشرة صلاحيات تتمدد واقعياً لدرجة التعرض للمظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي يقوم بها الطلاب أو الأسائذة أنفسهم داخل أسوار الجامعة. وهو ما رأى أسائذة كثيرون أنه يمثل «انتقاصاً للاستقلال الذي كفله الدستور والقانون للجامعة. وقيداً على حرية الأساتذة والباحثين والطلاب» و«أن الحرس الجامعي لا يتفق وأعراف الجامعة التي من المفترض أن تكون هي المكان الصحي للتعبير... وأن تعلم الديمقراطية يبدأ من الجامعة» و«أن دور حرس الجامعة من الممكن أن يقوم به اداريون تابعون للجامعة»... الخ.
فما الذي جرى ليصل الأمر إلى تجاوز الأعراف والقوانين وحتى الدستور؟
يتطلب الأمر إطلالة تمتد إلى مراحل سابقة وصولاً إلى هذا الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة الإدارية العليا والتوقف عند المحطات الرئيسية في هذا السياق:
• كان الطلاب المصريون طوال القرن العشرين طرفاً في تشكيل المكون الثاني مع العمال وكقاطرة للحركة الوطنية المصرية. وقد حصل الطلاب المصريون على شهادة عالمية تؤكد هذا الدور. إذ كان «يوم الطالب العالمي» هو من إنتاج الطلاب المصريين وصاغته دماؤهم. وتقرر الاحتفال عالمياً إثر حدث هائل جرى في مصر عام 1946 الذي شهد احدى ذرى النضال الوطني المصري المصاحبة لنهوض حركة التحرر الوطني العالمية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية. وكانت مصر تحت الاحتلال.
انطلقت مظاهرة عارمة من جامعة فؤاد الآول (جامعة القاهرة الآن) متجهة من الجيزة إلى القاهرة. لدى عبور المظاهرة كوبري عباس (كوبري الجيزة الآن) إلى الضفة الشرقية للنيل، تم فتح الكوبري وجرى إطلاق نار كثيف على الطلاب من ضفتي النيل، واستشهد كثير من الطلاب بالرصاص أو غرقاً. وكان هذا الحدث الذي هز مصر والضمير العالمي وراء الاحتفال العالمي سنوياً بهذا اليوم.
• في عام 1968 انفجرت مظاهرات طلابية عارمة احتجاجاً على الأحكام المخففة التي صدرت بحق قادة سلاح الطيران في المحاكمات الشهيرة التي جرت للمقصرين عقب نكسة 1967. ورغم اتساع هذه المظاهرات فقد أمر الرئيس جمال عبد الناصر بعدم التعرض لها أو استخدام العنف ضدها. بل قام بإصدار بيان 30 مارس استجابة للمطالب الطلابية والوطنية في هذا الوقت.
• عقب انقلاب السادات – هيكل مايو 1971 وادراك حقيقة أن السادات لا يرغب في خوض حرب للتحرير، وظهور معالم سياسته اليمينية، بدأ اندلاع المظاهرات العمالية والطلابية، إذ كانت الجامعات والمصانع من أهم ميادين الممارسة السياسية منذ الستينيات. ومثلت التحركات الجماهيرية الواسعة وفي القلب منها العمال والطلبة تحدياً كبيراً للسلطة، حيث لعب الطلاب الشيوعيون والناصريون الدور الأبرز في الجامعات. ودخل السادات حرب 1973 مجبراً. وبعد الحرب التي قام هو نفسه باغتيال نتائجها الميدانية وبطولة ضباط وجنود مصر بدأ السادات الإيغال في تعميق انقلابه على الخط الوطني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً (وصولاً إلى اتفاقيات العار مع العدو الصهيوني). وحيث لم تفلح عمليات تكوين ميليشيات من شباب الإسلاميين في مواجهة الناصريين والشيوعيين لتقليص نفوذهم ونشاطهم العارم في الجامعات. وإذ أفلت زمام الميليشيات (حيث انقلب السحر على الساحر عام 1981) فقد قام السادات بتأسيس حرس الجامعات عام 1979، وتوسع حجم ونشاط هذا الحرس وصولاً إلى الوضع الراهن الذي قال فيه القضاء كلمته. أي أن تأسيس هذا الحرس تواكب مع سياسات الأزمة، وتصاعد دوره وتضخم حجمه مع تفاقمها وامتدادها إلى كل جوانب الحياة المصرية.
مأزق السلطة وتحايلات الحل:
لا يجد النظام الحاكم في مصر طريقاً غير تضخيم قوات الأمن وتحويلها من حماية المواطن إلى حراسة الطبقة الحاكمة النهابة وسلطتها السياسية. وهكذا وصلت قوات الشرطة إلى حجم غير مسبوق.
في الماضي كانت دوريات الشرطة تجوب الشوارع للقيام بمسؤولياتها في حماية أمن المواطنين. غاب ذلك الآن، وأصبحت المهمة الأولى هي حماية السلطة من غضب الشعب.
في الجامعات (وهي موضوعنا)، وبدلاً من زيادة أعضاء هيئات التدريس وتحسين ظروفهم المادية، وتطوير المعامل وتوفير امكانيات الارتقاء بالعمل الأكاديمي، فإنه يجري تضخيم قوات الشرطة بينما التعليم العالي ينهار ويصل إلى الحضيض بشهادة مؤسسات دولية.
لقد أصبح الشعب المصري بطبقاته وفئاته الاجتماعية الكادحة هو العدو الأول للطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية وتراه كمصدر للخطر الحقيقي عليها وعلى مصالحها، وتكرس كل طاقتها في مواجهته.
إزاء المأزق الذي سببه حكم المحكمة الإدارية العليا، لا سبيل سوى ولوج طريق التحايل على الحكم لإفراغه من مضمونه. وهو ما أفصح عنه أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء «إن مفهوم الحكومة للحكم، هو أنه ألغى تبعية الحرس لوزارة الداخلية، حتى لا يكون هناك شرطي تابع لوزارة الداخلية داخل الحرم الجامعي.. الخ». لقد أجادت الحكومة هذه التحايلات، ويعتبر التحايل على حكم المحكمة نفسها في قضية أراضي مدينتي الصادر ضد أحد أبرز أعضاء لجنة السياسات (هشام طلعت مصطفى) نموذجاً حياً لم تمض عليه أسابيع قليلة.
ليس بالأمن وحده تستمر نظم الحكم:
لم يعرف التاريخ إمكانية استمرار سلطة سياسية مهما كان حجم ما تمتلكه من قوات أمنية تروع وتقمع بها الناس. تضخم قوات الأمن ومضاعفة أحجامها قياساً على الأحجام الملائمة لانجاز مهامها المحددة لا يمثل إضافة، ولكنه يكون خصماً من قوتها، بل يكون سلاحاً ذا حدين. ولا يزال في الذاكرة تمرد قوات الأمن المركزي عام 1986 التي تشكل القسم الأكبر من قوات الشرطة.
إن الضمان لاستمرار النظم هو تحقيق أمن الوطن وتوفير العدالة الاجتماعية، وإرساء الحقوق والحريات للمواطنين، وليس قمعهم لضمان وتأمين نهبهم وفتح أبواب الوطن لكل اللصوص الامبرياليين والصهاينة لتجريف الوطن.