الشايلوكية التركية تقبض على روحي دجلة والفرات!
جمال محمد تقي جمال محمد تقي

الشايلوكية التركية تقبض على روحي دجلة والفرات!

ليس للتزايد التدريجي في معدل انخفاض منسوب مياه دجلة والفرات داخل العراق حتى القاع، ومنذ أن بدأت تركيا مشروعها الاستراتيجي الخاص بالحجر على مياه جنوب شرق الأناضول الذي بوشر العمل فيه وعلى نطاق واسع مطلع ستينيات القرن الماضي، سوى معنى واحد، يقول إن تركيا تضرب بعرض الحائط كل الأعراف الدولية الخاصة بموضوعة الأنهار المشتركة، أو العابرة للحدود، فتلك الأعراف المسنودة بالقوانين الإطارية وباحكام المحاكم الدولية والمعاهدات الدولية، تشدد على مبدأ عدم إضرار الدول المتشاطئة او الدول التي تقطعها الانهار لبعضها البعض في حالة استثمارها في مياه تلك الانهار التي تنبع منها او تمر بها او تصب بها، وعليه يعتبر تغيير مجرى تلك الانهار او حجزمياهها بواسطة السدود والخزانات  دون مراعاة حاجة الدول ذات العلاقة في حصص تلك المياه الجارية خرقا فاضحا لجوهر مبادئ الأمم المتحدة الداعية لحفظ حقوق جميع اعضائها دون قيد أو شرط!

في معاهدة لوزان الموقع عليها عام 1923 بين دول الحلفاء وتركيا وتحديدا في الفقرة 109 ورد نص صريح بخصوص الحقوق المكتسبة والمتساوية في مياه النهرين الدوليين دجلة والفرات يقول : «لايحق لأية دولة من دول حوض نهري دجلة والفرات ـ تركيا سورية والعراق ـ إقامة سد او خزان او تحويل مجرى النهرين او احد فروعهما دون مداولة الدول ذات العلاقة لضمان عدم الحاق الاذى بحقوقها المائية المكتسبة».

منذ ذلك الحين وتركيا تعمل على ترضيخ العراق وسورية لمشيئتها البرغماتية المتحكمة قسرا بموضوعة تدفق مياه النهرين من عدمه، وبرغم تصاعد حجوم المصالح المشتركة تجاريا وثقافيا وبرغم روابط التاريخ والدين، وبرغم علاقات حسن الجوار التي يحرص العراق لتعزيزها عليها، وبرغم التوافقات الثنائية على مصيرية توريدات دجلة والفرات، وبرغم كل المناشدات الرسمية والشعبية الا ان تركيا عازمة بالسر والعلن على إعداد العدة التي بموجبها سيكون هناك برميل نفط مقابل كل متر مكعب من الماء الجاري في النهرين، فالسدود ال 23 قد سدت المنافذ الكبرى ولم يتبق سوى بضعة مقاولات ليكتمل جدار الحجز التي ستعزل منابع النهرين عن ممراتها ومصبها الطبيعي، وقريبا سيأتي ذلك اليوم الذي تكون فيه تركيا قادرة على تجفيف وتنشيف مجرى النهرين تماما، وبالتالي التفاوض مع الشركاء الطبيعيين على ما يمكن ان تسمح به هي من مستويات للتدفق ووفق شروطها ومحدداتها!

قيل إن بناة تركيا الحديثة أرادوا باستبدادهم بمياه دجلة والفرات الانتقام من مواقف العرب في أثناء الحرب العالمية الأولى، وقيل فيما بعد بأنهم يريدون تعويض فقرهم لثروة النفط التي يتمتع بها الجوار العربي، من خلال معادلتها بالثروة المائية التي تنبع من الأراضي الواقعة في حدود دولتهم، وذلك بعد ان يجعلوا من الماء سلعة نادرة يبيعونها لمن يدفع ويخضع، وقيل ايضاً بأن من توالى على حكم تركيا بعد الحرب العالمية الثانية اراد من ذات النافذة تغيير الطبيعة البيئية والطوبوغرافية لمنطقة شرقي الانضول لأغراض إدامة الكيان التركي المستحدث وتمييع اي اتجاه انفصالي قد يفرضه الاكراد، من خلال هز المنطقة برمتها بمشاريع كبرى توفر المزيد من فرص العمل والمزيد من الاستثمارات وبالتالي المزيد من الاندماج بالبيئة الجديدة، وقيل أيضا إن المشروع قد تحور ودخلت عليه أجندات أخرى بعضها تكتيكية وأخرى استراتيجية، كتلك المتعلقة بالأهداف الإسرائيلية لإضعاف الجبهة الشرقية التي تستعديها من خلال إضعاف التنمية في العراق وسورية وتجريدها من مواردها المائية التي تميزها عن غيرها من بلدان المشرق الجاف أصلاً، وأيضاً بجعل الفرات نهر أنابيب يمتد اليها دون الحاجة للتوسع نحو مجراه القديم الذي سيمسي كصحراء الربع الخالي، الجديد في الأمر كله دخول دول الخليج على خط تمويل المشروع التركي الكبير وخاصة الكويت والسعودية، وكأنها تتظافر بجهودها مع جهود إسرائيل لإضعاف وتمزيق بلاد مابين النهرين!

لقد كان النظام الملكي في العراق حليفاً لتركيا وإيران لأن الجميع كان يجمعهم هاجس مواجهة الخطر الشيوعي في المنطقة وقتها، وحلف بغداد كان شاهداً على ذلك، ووقتها لم تكن النزعة الشايلوكية عند صاحب القرار التركي قد تبلورت ونضجت أو وجدت طريقها للتنفيذ بعد، وكانت تلك الايام تعج بفيضانات دجلة والفرات، التي تشهد هي الأخرى على عدم تبلور ملامح الشايلوك التركي بعد.

وقتها لم يخطر ببال حكام العراق بذل الجهود للاستثمار في اتجاه تخزين استراتيجي للفائض من مياه النهرين بل راحوا يكثرون من بناء السدود لدرء الفيضانات، وعندها كانت اتفاقية الصداقة وحسن الجوار المنعقدة عام 1946 بين تركيا والعراق والتي أشارت إلى ضرورة التعاون والتنسيق لضمان جريان طبيعي للنهرين وأيضا للشروع في تنفيذ مايلزم من كلا الجانبين لدرء مخاطر الفيضانات في الجانبين العراقي والتركي بشرط تحمل العراق لتكاليف هذه الانشاءات، وبعد قيام الجمهورية اصطدم النظام الجديد بتحالف تركي ايراني خليجي ممول بريع شركات النفط الاحتكارية لقلب نظام الجمهورية الأولى، وبعد الانقضاض على حكومة قاسم ومجيء حكومة عارف عادت العلاقات مع تركيا إلى وضعها الأول، وفي سبعينيات القرن الماضي، وطيلة عقد الثمانينيات والتسعينيات منه توطدت علاقات حسن الجوار ودائما بمبادرة من الجانب العراقي، كل هذا كان يجري بالتزامن مع عملية بناء السدود التركية والتي لم ينقطع العمل بها إلا في أحيان قليلة، بسبب نقص التمويل!

لقد بنى العراق خط أنابيب لتصدير النفط العراقي الخام عبر تركيا مما وفر لها عائدات إضافية لم تكن متوفرة، وفتحت الأسواق العراقية أمام البضائع التركية، وأمام شركات الأعمال الإنشائية التركية، وراح العراق يعامل تركيا بميزان التفضيل حتى بأسعار النفط الذي تشتريه منه!

بعد أن ركز الشايلوك التركي على الفرات اولا من خلال بناء رابع أعظم سد في العالم على مجراه، وبعد ان صادر هذا السد حوالي 60 بالمئة من مياه الفرات المتدفقة باتجاه سورية ومن ثم العراق، والذي انتهى العمل به عام 92، جاء الدور على نهر دجلة، حيث يبنى عليه حاليا واحد من أكبر السدود العملاقة في تركيا والذي سينتهي العمل فيه عام 2014، وتشير الدراسات إلى أن سد »اليسو« هذا سيصادر حوالي 50 بالمئة مما تبقى من ماء جار في نهر دجلة، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار الاجراءات الايرانية التي تساهم بتجفيف الروافد النابعة من إيران والصابة في دجلة داخل العراق، فإننا سنكون مقتنعين تماما بأن تقارير الهيئات المائية الدولية القائلة بأن عام 2025 سيشهد تجفيفا شبه كامل لنهري دجلة والفرات داخل الأراضي العراقية، وإن عام 2040 سيكون عاما لتقبل العزاء المؤكد بوفاة نهرين كانا من أعظم وأكثر أنهار العالم تأثيراً بالتاريخ البشري.

 1415 كيلومتر هو طول المجرى المائي لدجلة داخل العراق، و1200 كيلو متر طول المجرى المائي للفرات داخل العراق، انخفاض منسوب المياه في هذين المجريين وبالتالي انخفاض سرعة التدفق فيهما سيزيد من ترسب الطمي فيهما وسيساهم ذلك بانقراض وهجرة أنواع مستوطنة من الطيور والأسماك، هذا إضافة إلى فقدان الأراضي العراقية تماما للمسطحات المائية « الأهوار والمستنقعات « والتي تتغذى على ما يجود به النهران، وإذا أخذنا التغيرات المناخية بنظر الاعتبار من حيث زيادة درجات الحرارة وارتفاع نسب هبوب الرياح المحملة بالرمال الصحراوية، فسيكون تصحر مجرى النهرين ليس بالامر المفاجئ!

الأمر جد خطير ويتطلب وقفة جادة ومسؤولة من كل من يعز عليه احتضار أمواج دجلة والفرات التي عاشرت أولى الرسالات السماوية واولى الحضارات الإنسانية على الأطلاق، الأمر يتطلب ضغطا شعبياً على أصحاب السلطة في العراق كي يطرقوا كل الأبواب لإيقاف هذا الموت غير المعلن للحياة الطبيعية في العراق، ضغط يطالبهم بعدم التفريط بحقوق العراق وشعبه، يطالبهم باللجوء للقانون الدولي والشرعية الدولية لاحقاق الحق، وذلك بايقاف هذه الجريمة البشعة بحق التراث الانساني، ناهيك عن كونها جريمة بحق شعب متمسك باستمرار الحياة على ارضه.

نشرة كنعان الإلكترونية