«الدلف» الأمريكي و«المزراب» السعودي
من تناول «المصالحة السعودية- السورية» والحديث المتكرر في الإعلام اللبناني تحديداً عما بات يعرف اصطلاحاً بـ«س - س»، ورغبة الرياض مثلاً رغم «مذكرات التوقيف السورية» في بقاء «علاقات سورية لبنانية متميزة» ولكن من دون «تفكيك المحكمة الدولية»، وصولاً إلى تفاعلات «الاستياء السعودي» من سورية بخصوص العراق وتشكيل حكومته وتسمية رأسها، وحتى تجذر تحالف دمشق- طهران أكثر فأكثر، مروراً بجملة الأخبار عن مجريات العلاقات البينية السورية السعودية سياسياً ضمن تفاعلات المشهد الإقليمي، كل ذلك يطرح على بساط البحث جوهر أية تحولات فعلية قائمة احتمالاً في التعاطي السياسي السعودي مع المنطقة ودولها.
ويبدو أن عناوين الأسباب المرتبطة بتقارب الرياض مع دمشق تتعلق إلى حد كبير بالمعطيات التالية:
أن هذا التقارب جرى في وقت تفاقم الأزمة الرأسمالية العالمية، وهو يقوم ضمن بحث السعودية عن دور إقليمي بارز في المنطقة من باب ملء الفراغ الناجم عن «انزياحات» الموقع الأمريكي في المنطقة والعالم. وهذا البحث السعودي إنما هو محاولة للخروج من تحت العباءة الأمريكية لمعطيين، أولهما عدم ضمان استمرار الغطاء الأمريكي في ظل الأزمة وتهدد المركز ذاته، وثانيهما إدراك البلاط السعودي أنه والسعودية ككل مستهدفان أمريكياً بعدم استمرار السلطة والتفكيك مالم تجر مواصلة الالتزام السعودي بالأدوار الأمريكية الموكلة (الحديث في حينه عن التوجهات «العروبية» لولي العهد، الملك لاحقاً، عبد الله بن عبد العزيز، والتي انتهت بعد اغتيال الحريري إلى محاولة القضاء على سورية واستعداء العالم عليها).
وتحت سقف رؤيتها ضمن «واقع الانزياحات» لتعاظم بروز لاعبين إقليميين آخرين في المنطقة يسعون لتحقيق النفوذ ضمن أجندات مختلفة (تركيا وإيران)، لا تستطيع المملكة قبول فكرة إخلاء الساحة لهؤلاء اللاعبين، ولاسيما مع ارتباط ذلك بإدراكها تعثر المشروع الأمريكي الصهيوني من جهة، وتهالك أوضاع النظام المصري إقليمياً من جهة ثانية، لتواصل هي اللعب على كل الحبال.
غير أن الرياض وقعت في مطب ومتطلبات السياسة التي اعتمدتها في «احتواء» سورية ومحاولات عزلها عن حزب الله وإيران لأن النتائج كانت دائماً معاكسة، فلا أصبحت قادرة على العودة إلى العداء السافر لدمشق، ولا تنجح مع الأخيرة الاتفاقات السعودية الضمنية مع واشنطن وتل أبيب بما فيها دعم المفاوضات التي يجريها فريق عباس مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وفي محيطها المباشر، كانت السعودية خلال السنوات الماضية تتلمس بوضوح انسحاب البساط من تحتها في قيادة مجلس التعاون الخليجي كقوة شكلية وحيز نفوذ إقليمي لها، مع ظهور التباينات السياسية بينها وبين أعضائه (قطر والإمارات مثلاً).
كل هذه المعطيات كانت ولاتزال تفرض على القيادة السعودية ضرورة قراءتها والتعامل معها وتغيير مسار التعاطي السياسي السعودي، ولكن ذلك لن يتحول في كل الأحوال إلى تغير جذري في المواقف السعودية لجملة أسباب من بينها:
استمرار خضوع السعودية للهيمنة الأمريكية المباشرة من خلال القواعد العسكرية والمستشارين العسكريين الأمريكيين، وهي بحكم قوة عطالة التبعية- على الأقل- يمكن أن «تتحرر» جزئياً وليس كلياً من «التلمذة النجيبة» لدى الأمريكيين.
ارتباط بنية الاقتصاد السعودي بالاستثمارات الغربية، الأمريكية بالدرجة الأولى، ولاسيما في القطاع النفطي.
أن الحديث عن تحولات جذرية سعودية يفترض وجود كتلة متجانسة الرؤى والأفكار والارتباطات والمصالح في القيادة والأسرة الحاكمة ومواقع النفوذ السياسية والاقتصادية السعودية. وهذا غير منطقي، على الأقل نظرياً!.
وبحصيلة تداخل كل المعطيات آنفة الذكر، فإن جل ما يجري هو أن هناك من يقرأ التحولات في السعودية، وربما كان الملك ذاته ضمناً، ويرى ضرورة تغيير التوجهات والأساليب ولكن بهدف واحد هو تثبيت الوجود المهدد «للكيان السعودي» كما هي حال التهديد التي يعاني منها حماته التقليديون خلال العقود الماضية في واشنطن، والوصول كذلك إلى غايات النفوذ والهيمنة الأمريكية نفسها، ولكن بالحلة السعودية والمقاس السعودي، أي محاولة بروز قوة إقليمية سعودية نافذة تحل محل «الأمريكي المترنح»، بمعنى أن شعوب المنطقة ضمن هذا السيناريو السعودي يراد لها الانتقال «من تحت الدلف» الأمريكي «إلى تحت المزراب» السعودي.
وبهذا المعنى، فإن السعودية ولكي تحقق مآربها في البروز والهيمنة، المشوهة والمنقوصة، ستواجه القوى التي تعارض المشروع الأمريكي نفسها، وستعتمد الأدوات الأمريكية في الاحتواء والترغيب والتهديد نفسها، ويبدو أنها ستواجه المصير ذاته في التعثر والفشل في ظل موازين القوى القائمة، وتحولات المشهد الإقليمي التي تسجل فيها شعوب المنطقة، وإراداتها نحو الخلاص من الأمريكي وحلفائه ومرتكزاته، نقاطاً هامة على حلبة الصراع.