إرادات الشعوب بين ضرورات الداخل ومآرب الخارج
«ما قبل 25 يناير و11 فبراير هو غير ما بينهما وما بعدهما»!
إن كل ما تختزله هذه العبارة من ارهاصات ومجريات أحداث ومنجزات بحجم الإطاحة بحسني مبارك بعد 30 عاماً من حكمه، وتعنته الذي ظهر خواؤه بأن مصر ليست بتونس، بات يفرض على الجميع، شعوباً وأنظمة ونخباً سياسية وثقافية وقواعد شعبية، في داخل البلدان العربية ومحيطها الإقليمي والدولي إعادة التفكير الجدي، بغض النظر عن إطاراتها وتوجهاتها ومشاربها وأجنداتها، أي كل من منظوره وحسب مصالحه وميزان قواه.
استلهام نموذج الشارع المصري في التغيير وعدوى المطالبة بمثيله وبأيام غضب سرعان ما انتشرت أو عادت للظهور في عدد من دول المنطقة العربية والعالم، من المنامة إلى كاراكاس، مروراً بصنعاء وطهران والجزائر العاصمة وحتى موسكو، دون أن ننسى الدعوات الباهتة في دمشق والردود عليها، ما يؤكد أن ارتدادات الزلزال الشعبي الجبار في مصر تطال جميع الدول، وسط محاولات محمومة من واشنطن وتل أبيب للتحكم بمجريات التفاعل وردود الفعل الجمعية لدى الجماهير في مختلف الدول، مع محاولة ركوب موجة «رغبة الشعوب بالتغيير» ومحاكاة ماجرى في مصر بطريقة أو بأخرى. وقد بدا واضحاً منذ البداية أن أحد أسباب لغز قيام واشنطن برفع الغطاء عن «بن علي» و«مبارك» من بعده أريد له أن يكون رسالة تحذير من أوباما وأركان إدارته، رسالة تتلطى «بالدفاع عن المطالب المشروعة للشعوب واحترام رغباتها» لكل النظم في المنطقة والعالم، مفادها: «إذا لم نحم، عند منعطف ما، حلفاءنا وعملاءنا، فلماذا سنغطي من له أجندات مغايرة لأجنداتنا ومواقف مناهضة لسياساتنا، طالما كنا، وخلافاً لإدارة بوش، نسعى لأخذ البلدان بالجملة، وليس بالمفرق»..!
بعيداً عن الانتهازية الأمريكية، وارتباطاً بالرد عليها في الوقت ذاته، فإن الأبعاد السياسية إقليمياً لسقوط رأس النظام في مصر، رغم استمرار محاولات إعادة إنتاجه وتسويقه بالدور السابق داخلياً وإقليمياً ودولياً، تعني بالدرجات الأولى فتح الأفق أكثر فأكثر أمام تعزيز موقع ودور سورية الإقليمي، وتقوية محاورها المختلفة (دمشق- الدوحة- أنقرة/ دمشق- طهران- القوى الوطنية اللبنانية وفي مقدمتها المقاومة وحزب الله/ دمشق- طهران- كاراكاس- وحتى مينسك)، مثلما تعني سد الأفق أكثر فأكثر أمام قوى محور الاعتدال العربي التي تلقت ضربة فنية شعبية كبرى عبر سقوط مبارك، ستدفعها للسعي لهجوم مضاد يخلط الأوراق على أمل منع إعادة الاصطفافات الشعبية منطقياً وكبح التثمير السياسي إقليمياً لنتائج ما شهدته مصر. وما تصريحات سعد الحريري مثلاً عن سقوط تفاهمات «س- س»، وتشكيله لمجلس حرب يجلس فيه إلى جواره جعجع والجميّل، وتعبئته لقوى 14 آذار في 2011 للقيام بـ«ثورة أرز-2» بنسخة شارعية ضد ميقاتي وسلاح المقاومة وحزب الله، إلا إشارة من وحي سعودي- أمريكي يتردد صداه في تهديدات قادة الكيان بالعدوان مجدداً، ويسعى لتعزيز هذا الكبح المأمول والملعوب من تحت الطاولات، بما فيها بداية مع بعض الرؤوس المفتاحية على طاولة المجلس العسكري الأعلى في مصر، الذي بات يطلب إلغاء الوقفات الاحتجاجية في المعامل والمواقع الإنتاجية والاقتصادية في مصر كيلا «يتأثر الأمن القومي والاقتصادي المصري»، رغم أن هذه الاحتجاجات هي ما ستضمن للمصريين قيام المقدمات الموضوعية لإسقاط النظام الاقتصادي الاجتماعي الليبرالي وسياساته الإفقارية الممنهجة التي تراكمت لكي يفجر الشارع المصري ثورته، انتقاماً لكرامته المسفوحة في لقمته وعبر مواقف تخاذل واعتدال قيادته السياسية، مروراً بالفساد والمحسوبيات والرشوة وعسف أجهزة الشرطة والأمن، و«لجانها» المتحركة في الشوارع.
إذا كنا صريحين وعلى درجة عالية من المسؤولية الوطنية، علينا الإقرار أن ثمة «مقارنات إجبارية» تجري، على الأقل، في أذهان الجميع في سورية، مواطنين ومسؤولين و«معارضة».
وبالنسبة إلينا، لا أعتقد أننا بصدد «إعادة اختراع عجلتنا» منذ 2002، وحتى الآن، بل إن كل الاستنتاجات والطروحات وجملة المطالب والخط البرنامجي- في القضية الوطنية السياسية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية ذات المضمون- باتت ضرورة أكثر من أي وقت مضى، بدءاً من مقولة «الثنائية الوهمية» وصولاً إلى النموذج الاقتصادي البديل، عالي النمو والعدالة، مروراً بضرورات: مكافحة الفساد الكبير لأنه بوابة العبور للعدوان الخارجي، وتحرير الجولان، وإصدار قوانين الأحزاب والمطبوعات والانتخابات بشكل عصري، وإلغاء الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة ومعالجة نتائجه، وتطوير القضاء وتعزيز استقلاليته وإلغاء الأحكام العرفية والتخفيف من استخدام قانون الطوارئ، مع الأخذ بعين الاعتبار السقوف الزمنية الضاغطة على موضوعة الإصلاح بشموليته واتجاهه وجذريته، ويضاف إلى ذلك ترابط الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي بالأمن الوطني، وضرورة ترحيل الفريق الاقتصادي ومحاسبته، وأهمية تعزيز ثقافة المقاومة لإيجاد نموذج ثقافي لها، وإدارة المعركة الإعلامية بما تتطلبه ضمناً من مكاشفة وشفافية ومحاسبة بما يستجيب للتحديات المختلفة، بما فيها «الإعلام الجديد»..
ويعني هذا أنه بعيداً عن المعزوفات الممجوجة لاستقواء بعض الأصوات في الخارج، بالخارج، فإنه لا خلاف لدى عموم السوريين على المواقف الوطنية السورية والأداء الدبلوماسي السوري في مواجهة مآرب الخارج ومخططاته وإملاءاته، ولاسيما في القضايا وعند المنعطفات الإقليمية، وهو ما يشيع إحساساً عارماً بالكرامة الوطنية، ولكن عدم التعاطي السريع والجدي مع ضرورات الداخل المذكورة أعلاه، يؤثر على بقية مرتكزات هذه الكرامة من حيث المفهوم والمبدأ والمعايشة اليومية، ما يشكل نقاط ضعف واختراق كبرى في بنية البلاد، تخلق إمكانيات التشويش لدى معسكر مآرب الخارج على إرادات الداخل في فهمه وتعبيره عن ضروراته واحتياجاته.