أوباما مقيد اليدين؟
ويليام بفـاف ويليام بفـاف

أوباما مقيد اليدين؟

في كتابه الرائع الصادر حديثاً «أحكام واشنطن: درب أمريكا إلى الحرب الدائمة» يسلط العسكري السابق، «أندرو جي. باسيفيتش»، الضوء على انكماش نفوذ المؤسسة الرئاسية الأمريكية وهزال تحكمها بشؤون الحرب والسلم في عصرنا الراهن، وانعدامه في شؤون ومجالات أخرى هامة.

يصح القول في وضع كهذا إن انقلاباً هادئاً قد وقع. مع التأكيد على أنّ الانقلاب يقتضي توفر العزم والنية: أي وجود فاعل مسؤول ينفذ الانقلاب بغية الوصول إلى هدف محدد. وما يطرحه باسيفيتش يشير إلى أن الانقلاب يمكن أن يكون دستورياً أو فكرياً، كما يمكن أن يقوم إما من خارج الحكومة أو من داخلها. وغايته إيجاد حالة يفقد فيها الرئيس حرية التصرف حسبما يريد، لأن الأبواب جميعها مقفلة في وجهه، باستثناء باب واحد يبقى مفتوحاً.

ترجمة: موفق إسماعيل

وأكثر الشواهد شيوعاً عن هكذا حالة، خطة حرب جنرالات الإمبريالية الألمانية في عام 1914، التي وضعت برنامجاً تفصيلياً لتعبئة وحدات الجيش العامل وروافده الاحتياطية، وإعداد تدريبات الجاهزية، وتحضير خطوط النقل والإمداد بعد تأهيل السكك الحديدية، وتفعيل مجمل العوامل اللوجستية... الخ، كل هذا على أساس أن أعداء ألمانيا هم فرنسا وروسيا. وفي حين جرى الاستعداد للعدو الأول، فرنسا، على عجل، جرى الاستعداد ضد روسيا على مهل. وعندما تحدد في عام 1914 أن أعداء ألمانيا الرئيسيين هم فرنسا وروسيا، وجدت برلين نفسها مقيدة ببرنامج التعبئة المسبق وبمهاجمة فرنسا عن طريق بلجيكا المحايدة، وبالتالي دخول بريطانيا في الحرب.

كما يكتب باسيفيتش عن القوات الجوية الإستراتيجية الأمريكية، تحت إمرة الجنرال «كورتيس لو-ماي»، في عام 1948، المنظمة بدقة عالية، والمعدة بشكل رئيسي لصد أي هجوم سوفييتي محتمل على الولايات المتحدة، وكل ما لديها تسع وعشرون قاذفة حربية «بي 29»، نصفها فقط قيد الخدمة، وبضعة قنابل نووية كانت الولايات المتحدة قد قررت تصنيعها. بينما بحلول 1970، اتسعت جعبة لو-ماي لتضم ما يكفي لتنفيذ عشرة آلاف هجوم نووي تشمل كافة أرجاء الكتلة السوفييتية!! أيحتاج رئيس أمريكي عاقل لهذا المقدار من القوى؟

عندما انتخب باراك أوباما المتعهد بخوض «الحرب الصح» في أفغانستان، كان يتوقع، حتماً، من وزير الدفاع روبرت غيتس، تقديم طيف من الخيارات المرفقة بتحليل شامل، من خيار التفاوض مع حركة طالبان وحتى خيار شن الحرب النووية. إنما بدلاً من ذلك، قُدِّمت له خطة واحدة، موضوعة قيد التنفيذ فعلياً، تتضمن تعزيز القوات ومواجهة المقاومة، حسبما رسمها الجنرال ديفيد بترايوس، ثم تم إعلانها وتسويقها، بشكل درامي، باعتبارها إستراتيجية النصر الجديدة.

أكان بمقدوره أن يرفض؟ فيما يقف الجمهوريون ضده، ويزدريه البنتاغون كجاهل بالشؤون العسكرية، و«ناشط اجتماعي» سابق، و«محامي الحقوق المدنية»، ويصرخ الإعلام، بأعلى صوته مطالباً بإحراز النصر في أفغانستان؟ لوجد أوباما نفسه مضطراً لمجابهة الغوغاء في أروقة البيت الأبيض.

هكذا تم «الإيقاع» بأوباما، كما يقال. لكن ليس من قِبل أعدائه، أو من خلال تمرد زمرة عسكرية، أو تآمر عصبة من المحافظين الجدد، بل عبر طبيعة الحكومة الأمريكية، وقوات واشنطن السياسية، والضرورات الإعلامية. وهناك أمر آخر أوقع به، وسوف يبقيه، على الأرجح، تحت رحمة البنتاغون والإعلام، ألا وهو الحشود الصماء المتخمة بالمشاعر القومية، التي لم تُعزَّز كي «تُهزم».

وفي الظرف الراهن، تحاول الطبقة السياسية ومخططو السياسة الأمريكية إقناع أنفسهم بأن الولايات المتحدة قد دخلت في «حرب طويلة الأمد»، في الحرب الأبدية ضد التعصب والتطرف والتهديد بأن قوانين الشريعة ستسود المحاكم الأمريكية (كما يحذرنا كارل روف)، وأن عناصر حركة طالبان المسعورة سيتبخترون في الشوارع الأمريكية!

بنى الجنرال بترايوس سمعته عبر إحيائه التكتيكات الكلاسيكية لمواجهة المقاومة في العراق، ونجاحه بإقناع رؤسائه والناس بأنهم حققوا النجاح فيها. وصادق أوباما على هذا النجاح بسحبه القوات الأمريكية، ما خلا خمسين ألف جندي (بعد إدخال مرتزقة بعدد القوات المسحوبة)! وفي أفغانستان، أعاد بترايوس تقديم برنامجه لمواجهة المقاومة من جديد، كأسلوب للتعامل مع حربٍ لا مؤشر على النصر فيها. وأعيد النظر بالصراع باعتباره «حرباً طويلة» ضد التطرف المعادي للغرب، حيث النصر (للديموقراطية) مؤكد لكن بعيد!

هذه الحرب مهمة الحضارة (والهدف الاستعماري تتضمنه الخطة). وأسلوبها، بخزيه، مستمد من مقولة «كسب القلوب والعقول» في فيتنام.

سبق لسلف بترايوس في مركز قيادة القوات المشتركة، في «ليفنوورث فورت»، اللفتاننت جنرال ويليام كالدويل، أن قال: «سوف يقاس النصر من خلال ولاء وثقة سكان البلد». وفي كتاب «بوب وودوورد» الصادر مؤخراً بعنوان «حروب أوباما»، يرد قول بترايوس «لا أظن أن هذه الحرب من النوع الذي يقاس بالربح. إنها نوع من المعارك التي نخوضها في سبيل ما تبقى من حياتنا، وربما من أجل حياة أبنائنا»!!

لماذا يجب النظر إلى القضية على هذا النحو؟ لعل هذا هو مضمون الرسالة التي يريد بترايوس إيصالها لأوباما، قبل المؤتمر الاستراتيجي الحاسم المزمع عقده في شهر كانون الأول القادم، المضمون عن أن «الحرب الحقيقية» هي، على الدوام، تلك الحرب الجارية في سبيل إدامة النظام العالمي الذي طالما سمعنا عنه من قبل، كشرط لضمان الأمن القومي الأمريكي، في الحاضر وفي المستقبل البعيد، على السواء؟

بالأمس، أوقع الجنرالات بأوباما من أجل دعم مشروع «نصرهم» في العراق. وها هم يوقعون به اليوم من أجل مشروع الهزيمة.