إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

وهْمُ الاستقلالية!!

النجم اللامع في سماء مصر الآن هو هشام طلعت مصطفى، أحد أركان لجنة السياسات في حزب الجماعة الحاكمة التي يقودها جمال مبارك.

لا توجد أداة اعلامية مصرية لم تعط مساحة واسعة له، بينما هو موجود في السجن بتهمة التحريض على قتل الفنانة اللبنانية. إذ كان محكوماً عليه بالإعدام ومعه ضابط أمن الدولة السابق الذي قام بتنفيذ الجريمة. تم نقض الحكم، وصدر تخفيف الحكم إلى السجن 15 عاما للمدعو هشام والسجن المؤبد لمنفذالجريمة.

 

صدر ضد هشام حكم آخر في قضية أرض مشروع «مدينتي» التي قضت المحكمة الادارية العليا ببطلان تعاقده مع الحكومة لما شاب العقد من فساد، وهو حكم نهائي لا يجوز الطعن عليه.

 

قوة المال:

تجلت قوة المال فيما أتيح للقاتل النهاب من فرص الافلات من حكم الاعدام في قضية القتل، واحتمال تمكنه من الافلات نهائياً من العقوبة قضاءً، أو بعفو صحي أو غيره. بينما أمكنه الافلات في قضية تخصيص 8000 فدان لمشروع «مدينتي» حصل عليها بالمجان تقريباً وأنجزت الحكومة المباركة على نفقتهاالبنية الأساسية للمدينة. إذ تحايلت الحكومة على حكم القضاء بتشكيل لجنة لحل المشكلة انتهت إلى إعادة بيع الأرض له، بما يضمن حصوله على أرباح مجانية تقدر بعشرات مليارات الجنيهات!!

حققت قوة المال حشد أكبر المحامين وجيوش من الاعلاميين لخدمة القاتل النهاب، وهو ما يستحيل إطلاقاً توافره لعشرات الملايين من المصريين الذين لا يمكنهم الافلات من عقوبة مخالفة مرورية.

 

أوهام الاستقلالية:

تعشق القوى والتيارات السياسية في مصر مقولة «الاستقلالية»، وفي القلب منها استقلالية القضاء. وتتعامل مع الموضوع  باعتبار أنه قابل للتحقق في ظل هذه السلطة وينطلقون من مبدأ فصل السلطات الذي صاغته البرجوازية تاريخياً.

إذا كانت الاستقلالية بمعناها البرجوازي الشائع مطلب من البرجوازية الليبرالية أو غير الليبرالية، فلأنها تستهدف حل التناقضات الثانوية بين أجنحتها في إطار مشاركة الجميع في استغلال الكادحين (أي في صراعهم للاستئثار بأكبر قدر من فائض القيمة المولد والمستخلص). لكن هذا الطرح في الظروف الراهنةمصرياً (بل وعالمياً أيضاً) حيث تجاوزت البرجوازية مراحل فتوتها وحيويتها الأولى، وكذا إمكانية التحايل والتجمل منذ عقود، ووصلت إلى أحط مراحل الرجعية والوحشية، فإن طرح هذه المسألة من قبل اليسار الواسع، أي الشيوعيين والناصريين يصبح طرحاً عقيماً لا يمكن تبريره، وهو سقوط مشين إلى هاويةالإصلاحية التي تمثل سنداً رئيسياً لاستمرار حكم البرجوازية العميلة التابعة في بلادنا. ذلك أن الجهد المبذول للمطالب الاصلاحية دون طائل يجب أن يضاف الى الجهد المبذول لاسقاط سلطة هذه الطبقة. وإذا كانت المطالب الإصلاحية مبررة في الماضي بهدف تحسين ظروف النضال، فإنها لا يمكن أن تكون مبررةراهناً في ظل ما آلت اليه الرأسمالية محلياً وعالمياً حيث أصبحت عصية على أي إصلاح، أو قادرة على الاستجابة لأي مطالب اصلاحية حقيقية، ولأنها تخوض الآن صراع وجود واستمرار يدفعها للتوحش المتصاعد، سواء في بلدان نشأتها الأصلية في الشمال، أو ازاء شعوب الجنوب وبلداننا العربية والاسلاميةفي القلب منها.

 

جذور الوهم:

العودة إلى جذور المسألة بشكل سريع ضرورة لتوضيح وفضح «السلفية البرجوازية» التي تكرست أفكارها في العقول رغم زوال أساسها المادي والفكري على السواء منذ أمد طويل.

النموذج الكلاسيكي الذي يمكن الركون إليه لتوضيح القضية هو الثورة البرجوازية الأبرز، أي الثورة الفرنسية. إذ في خضم الصراع ضد الاقطاع بكل ظلاميته وتخلفه نهضت وانتصرت الثورة البرجوازية الفرنسية في ظل شعار «الحرية والإخاء والمساواة» الذي اجتذب لصف الثورة ملايين المقهورين. ولكنهاسرعان ما تحولت الى الاستبداد وألقت بالشعار إلى مزبلة التاريخ، وجرت صراعات دموية بين أجنحتها، وتمكنت الأجنحة التي تحمل الفهم الحقيقي لجوهر المجتمع الطبقي الجديد أن تسحق الحالمين بقدر من الحرية والإخاء والمساواة الموهومة. بل وقامت بعد 9 سنوات من انتصارها بحملتها الشهيرة للغزوالاستعماري لمشرقنا العربي بدءً اًمن مصر بقيادة نابليون بونابرت، إعمالاً لقانون التوسع المصاحب للرأسمالية ولو على جثث الشعوب. وتم إرواء شوارع باريس وغيرها من المدن بدماء العمال وكل الحالمين بالعدل والحرية. واستدعت البرجوازية البريطانية (أساساً) العلاقات العبودية من عمق التاريخ، «مأساةتجارة الرق». وانطلقت البرجوازية الأوربية لقهر واستعمار العالم كله وتحاربت فيما بينها لتهلك عشرات الملايين في صراعاتها من أجل الهيمنة على العالم واقتسامه قبل وبعد ظهور الولايات المتحدة كقوة ثم كقيادة للبلدان الرأسمالية.

لم تخرج البرجوازية بالدولة عن طبيعتها بالنسبة للدولة الطبقية. وجوهرها «شرطة ومحاكم وسجون» لحماية الطبقة السائدة. ولكنها ابتكرت في اطار تمويه «دولتها» ما يسمى «السلطات الثلاث» أي حكومة هي السلطة التنفيذية، وبرلمان هو السلطة التشريعية، ومحاكم تمثل السلطة القضائية باعتبار أن تلك هىأنسب صيغة مموهة لإدارة الصراع الطبقي المتصاعد بينها وبين الطبقة العاملة وسائر الكادحين من جهة، ولإدارة التناقضات الثانوية داخل البرجوازية ذاتها. وبالتالي فقد حاولت تصوير الدولة باعتبارها كياناً محايداً ومستقلاً يرسي العدل بين المواطنين المتساوين شكلاً، وأن سلطاتها الثلاث منفصلة ومستقلة.ولكن، لا الدولة ولا مؤسساتها المعبرة والصانعة للبناء الفوقي لمجتمع القهر البرجوازي (المموه) والصانعة والحامية للبناء التحتي لمجتمع الاستغلال كانت مستقلة إطلاقاً عن الطبقة البرجوازية السائدة. وكان هذا الوضع يستجيب أحياناً للتوازنات الطبقية المحلية  أو الدولية فيقدم بعض التنازلات للطبقات الكادحةالتي يقوم الآن بالنكوص عليها وسحبها.

كانت البرجوازية، والبناء التحتي والفوقي للمجتمع البرجوازي، بما في ذلك الانجازات التي تحققت، هي مجرد مرحلة في التطور البشري، شاخت وأصبحت عبئاً يهدد مستقبل البشرية، بما يضع على عاتقنا ضرورة الاسراع بطي صفحتها ودفنها، وليس اللهاث واستدعاء سلفية برجوازية عفى عليها الزمن.

 

عصر الانتهاك:

تعيش مصر عصر انتهاك فريد لكل ما هو إيجابي بما في ذلك أية إمكانية نسبية جداً لاستقلالية القضاء تفرضها موازين القوى الاجتماعية. وهي تخوض صراعاً وحشياً من أجل الاستمرار وتعظيم نهبها الوحشي عبر كنس قوانين صدرت في الخمسينيات والستينيات لمصلحة الكادحين واستحداث قوانين جديدةمنحازة بالمطلق لمصالح عصابات الرأسماليين وسادتهم تمتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة التي تمس مصالح الطبقة الحاكمة أو سياسة التبعية تتحايل على تنفيذ الأحكام القضائية فتفرغها من مضمونها وتضيق الخناق على القضاء.. الخ.

لكن الأهم أن ذلك كله، ومجمل السياسات، وصياغة البرلمان وفق المصالح المطلقة للطبقة الحاكمة، وشيوع الفساد المطلق، كل ذلك أوجد البيئة الملائمة تماماً لاستخدام قوة المال بما يتيح لقمم البرجوازية المتعفنة الافلات بجرائمهم. عبر حشد واسع لكبار المحامين بما يتيح فرصاً للطعون على الأحكام غير متاحةلعشرات الملايين وحشد جبار للإعلام من صحف حكومية وخاصة، وقنوات تلفزيونية حكومية وخاصة أيضاً لخدمة هذا الهدف.

لقد شهدنا العجب العجاب في قضيتي القتل والنهب المتهم فيهما هشام طلعت مصطفى. ليلة النطق بالحكم في قضية القتل مباشرة تولى ما يقارب عشر قنوات فضائية وبشكل متزامن (!!) إذاعة برامج حضرها محامو المتهم حيث قاموا بإلقاء مرافعات الدفاع التي رفضت المحكمة سماعها (وهذا الرفض يتيح الطعنعلى الحكم وربما يؤدي إلى براءة المتهم!!) وذلك بهدف إتاحة الفرصة لإظهار المتهم أمام الرأى العام في صورة الضحية والتمهيد لتخفيف الحكم وما يلي ذلك. وفي جريمة النهب قامت الحكومة التي جوعت الشعب ودمرت الوطن بإنقاذ أحد أكبر أقطاب النهب في تاريخ البلاد.

لم يعد هناك أي سبيل للكلام عن الاستقلالية. الوطن ذاته غير مستقل.

الاستقلالية الوحيدة الآن هى استقلالية السلطة عن الوطن وعن الشعب ومصالحه.

أما الاستقلالية كما نريدها فلن تتحقق سوى بإلقاء هذه الطبقة وسلطتها في مزبلة التاريخ.