مآسي نظام القبضة الحديدة ليبيا ما بعد القذافي.. إرث متراكم من الأحقاد
ماذا بعد اختفاء الديكتاتور الذي حكم ليبيا لما يتجاوز أربعة عقود بقبضة من حديد! سؤال يطرحه الجميع بتوجس نابع مما يشاهد من ظهور الكراهية العنصرية بين الليبيين على نحو متزايد، يوماً بعد يوم
لقد تم إعلان ليبيا الحرة والمحررة بعد انتفاضة دامت ثمانية أشهر وأسفرت عن موت الزعيم الليبي السابق معمر القذافي. والآن يضع الليبيون نصب أعينهم بناء ديمقراطية قابلة للتطبيق، وصياغة دستور جديد، وتنظيم أول انتخابات برلمانية ورئاسية حرة في البلاد.
ومع ذلك، فمنذ سقوط نظام القذافي الذي حكم ليبيا لمدة 42 عاماُ، يبذل قادة المجلس الوطني الانتقالي قصارى جهدهم لتوحيد صفوفهم والتحدث بصوت واحد.
وقد ردد هذا الواقع محمود جبريل، القائم بأعمال رئيس الوزراء، عندما أعلن في 22 أكتوبر أنه سيتنحى، وأن السير قدماً في نهج البناء سوف يكون صعباً لأن مسألة الوحدة لا تزال تشكل التحدي الرئيسي أمام الليبيين بعد التخلص من «عدوهم المشترك».
«إزالة الأسلحة من شوارع البلاد، وإعادة الاستقرار والنظام، وتوحيد الفصائل المتناحرة.. هي الأولويات الرئيسية بعد موت القذافي»، بحسب تصريحه للصحافة في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي بالأردن. فتعتبر ليبيا- بمايزيد على 140 من القبائل والعشائر- واحدة من أكثر الدول المجزأة على أسس قبلية في العالم العربي.
وعلى الرغم من التحديث، ما زالت القبلية قوة بارزة في بلد يمتلئ بالأسلحة الآن. ففي أعقاب الثورة على حكم القذافي، ظهر ما يقرب من 40 من مختلف الميليشيات المستقلة، وما زالوا طليقي الأيدي.
وهذا يثير تساؤلات حول قدرة المجلس الوطني الانتقالي على السيطرة على كل المجموعات المختلفة، خاصة وأن غالبيتها له مصالح متضاربة ويتطلعون إلى تصفية حسابات الماضي. وأصبح هذا المشهد المؤرق حقيقة واقعة بالفعل بالنسبة لليبيين من أقصى الجنوب.
تقع تورغا على بعد حوالي 40 ميلاً إلى الجنوب من مدينة مصراتة على طول الساحل الغربي لخليج سرت، وكانت موطناً لما يزيد على 20.000 من السكان، والآن صارت مدينة أشباح. ووفقا لبعض الليبيين، سميت تورغا بهذا الاسم لأن سكانها كانوا من ذوي البشرة الداكنة كأسلافهم من الطوارق الأصليين.
والطوارق، الذين يقطنون مناطق الحدود في ليبيا وتشاد والنيجر والجزائر، هم من البدو الذين سيطروا تاريخياً على طرق التجارة عبر الصحراء، وكانت لها سمعة بأنهم لصوص.
وفي حقبة السبعينيات، قام القذافي بجمع الطوارق وغيرهم من المجندين الأفارقة في كتيبته النخبوية والمعروفة باسم «الأسمر». وتحت إشراف القذافي، كانت هذه الميليشيات ترسل في حملات عسكرية على البلدان المجاورة بشكل متكرر.
وفي بداية الثورة في شهر فبراير من هذا العام، أطلق العنان لكثير من الطوارق لكبح جماح المتظاهرين. وكنتيجة حتمية تزايدت الكراهية العنصرية تجاه الأفارقة ذوي البشرة الداكنة، وهي التي غذتها شائعات غير مؤكدة بأن القذافي يستعين بالمرتزقة الأفارقة للقضاء على التظاهرات، مما أنتج عدواً مشتركاً جديداً.
ففي أعين أهل مصراته، كان الطوارق وراء ارتكاب بعض أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان خلال حصار القذافي لمصراتة في شهري مارس وابريل.
وفي يوم وصفته جماعات حقوق الإنسان بالهجمات الانتقامية في 15 أغسطس، قامت قوات المتمردين المسماة «لواء لتطهير العبيد، الجلد الأسود» باحتجاز وتشريد المئات، في الوقت الذي اختفى فيه الطوارق دون أثر.
«إذا عدنا إلى تورغا سنكون تحت رحمة المتمردين من مصراتة»، هذا ما قالته امرأة تعيش في مخيم مؤقت مع زوجها وأولادها الخمسة، لممثل فرع منظمة العفو الدولية من المملكة المتحدة.
وأضافت، «عندما دخل المتمردون بلدتنا في منتصف أغسطس وقاموا بقصفها، لذنا بالفرار حاملين ملابسنا على ظهورنا. لا أعرف ماذا حدث لبيوتنا وممتلكاتنا. فالآن أنا هنا في هذا المخيم.. ابني مريض وأخشى جداً الذهاب إلى مستشفى البلدة، فأنا لا أعرف ما سيحدث لنا الآن».
كذلك عانى من عواقب هذا الانتقام العديد من المهاجرين لأسباب اقتصادية، واللاجئين، وطالبي اللجوء من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وقد لجأ أغلبهم إلى البلدان المجاورة كتونس أو مصر. وبالنسبة للبعض، كان المكان الجديد مجرد بلد للعبور، أما بالنسبة للآخرين فقد أصبحت موطناً جديداً.
وقالت إيمان البالغة من العمر 20 سنة: «خوفاً على حياتهما، فر والداي وهما من مدينة الفاشر في دارفور إلى طرابلس في عام 1998. لم يسبق لي العيش خارج ليبيا قبل بدء الصراع. كان والدي يعمل طباخاً ووالدتي تعمل في المنازل. وقبل أن يفرا كنت في عامي الجامعي الثالث أسعى للحصول على شهادة البكالوريوس في الطب».
وأضافت «لسوء الحظ أخذت الانتفاضة في ليبيا منعطفا دموياً، لأن الناس لم تعد تحترم القانون وبدأوا باغتصاب النساء وأخذ الرهائن وقتل الناس. وظلت عائلتي محتجزة في بيتنا لمدة شهرين»... «كانوا يقتلون جميع الذكور السود الذين يجدونهم في الشارع بعد اتهامهم بأنهم من المرتزقة، مما يعني أن والدتنا كانت مضطرة لجمع الطعام، ولكن في الكثير من الأيام كنا نتضور جوعاً».
ويشار إلى أن مقالاً نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الشهر الماضي، نقل عن جبريل قوله «فيما يتعلق بتورغا، فإن وجهة نظري الخاصة هي أن أهل مصراتة وحدهم لهم الحق بالتدخل في هذه المسألة. ولا يمكن معالجتها من خلال النظريات وأمثلة الكتب الخاصة بالمصالحة الوطنية مثلما حدث في جنوب أفريقيا، وأيرلندا، وأوروبا الشرقية».
هكذا يبدو وإن وقعت دعوات جماعات حقوق الإنسان التي تحث المجلس الوطني الانتقالي على حماية الليبيين السود في ليبيا المحررة في آذان صماء، والخوف الحقيقي الآن هو أن يشكل ذلك سابقة لما هو آت.