تداعيات في طيات الأزمة الرأسمالية
تترابط ظواهر عالمنا أكثر من ذي قبل، وتتداخل تفاعلاتها وتداعياتها، وتفرض الأزمة الرأسمالية مشكلاتها وخصائصها الجديدة، وقد انتهى الرهان والجدال الذي دار على ساحة خصائص هذه الأزمة.
تتسم الأزمة الرأسمالية بالاستمرارية ولم تعد ذات خصائص دورية ويعود ذلك إلى أن علاقات الإنتاج الرأسمالية تملأ وتسود في مختلف بقاع الأرض، ويخال للبعض أن القول باستمرار الأزمة هو أمر مخالف لما قاله ماركس عن أطوار الأزمة الرأسمالية، إلا أن ذلك الرأي لا يميز بين جوهر الظاهرة الذي هو حتمية الأزمة الرأسمالية من جهة وأشكال تجليها وتطورها من ناحية أخرى.
يضاف إلى ذلك أن الأزمة الراهنة تكونت في ظروف خصوصيات العولمة واتفاقية التجارة الدولية وتشابك أثار زعزعة الدولة الوطنية والإقلاع عن السياسات الحمائية الوطنية وتراجع دور الدولة الاقتصادي والخدمي وسيادة مناهج الخصخصة واللبرلة.
إن استمرارية الأزمة يطرح بوضوح مناهج انحطاط الرأسمالية، فلم يعد بالإمكان إعادة إنتاج الرأسمالية بحيث تأتي إعادة إنتاجها باتجاه تطوري، باتجاه صيغ رأسمالية أكثر تطوراً، بل على العكس من ذلك، فإن إعادة إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية اصبحت عملية مأزومة تبتعد عن طور النهوض والتعافي ناهيك عن تأزم القوى المنتجة بكافة مكوناتها بما فيها معارف الإنسان ومستواه المعاشي.
صحيح أن خاصية الانحطاط، خاصية التراجع نحو الصيغ القديمة لم تأخذ مداها، لكن مؤشراتها متنوعة وتشمل مختلف العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. ويلاحظ أن ابرز ظاهرة في هذا المجال هو انهيار دول رأسمالية على شكل إفلاس كما هي حالة اليونان وإسبانيا والبرتغال. ولم تعد المشكلة أن شركة تبتلع شركات، بل تحول الأمر إلى مقوم امبراطوري على شكل ابتلاع دولة بكل مكوناتها. وهو ما اصبح معروفاً بان الاحتكارات الألمانية تمتلك دول اليونان، أما إسبانيا فهي على الطريق حيث تجاوزت ديونها /65%/ من الناتج المحلي. وقد تجاوزت تلك النسبة التي حددها الاتحاد الأوروبي عند /60%/ من الناتج المحلي.
إن الرأسمالية تجدد ذاتها عبر صيغ الانحطاط ونجد دلالاتها في أزمة اليورو وقد طرحت فكرة التخلي عن اليورو والعودة إلى العملات الوطنية ما قبل اليورو. ويعادل ذلك تفكيك الاتحاد الأوربي، وتمركزت بحوث معاهد مختصة مثل معهد «ستراتفور» على تلك الظاهرة وتوصل ذلك المعهد إلى الإعلان أن إفلاس اليونان وإخراجها من منطقة اليورو في اسرع وقت بات قدراً محتوماً. وقد أعلن رئيس المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يواجه أكبر تحد منذ تأسيسه قبل ستين عاماً، معتبراً أنها لحظة تاريخية حرجة، فإما أن يسير الاتحاد الأوروبي قدماً باتجاه مزيد من التوحد وإما التشظي.
لكن ما أغفله رئيس المفوضية هو أن السير قدماً هو استعمار دول عديدة من قبل دولتين هما ألمانيا وفرنسا نظراً لأن الإفلاس والتدهور الاقتصادي يشمل معظم الدول الأوروبية.
إن الوجه الأخر للانحطاط هو أن المعالجات لا تؤدي إلى نهوض. إنها تؤدي إلى تعمق الأزمة وتجذرها واستعصائها على المعالجات الرأسمالية، ويدفع ذلك إلى معالجات حمائية وطنية طواها تطور الرأسمالية، وقد أعلنت الولايات المتحدة عن خطط فرض ضرائب جديدة على البضائع الصينية وتضغط لرفع سعر العملة الصينية، إن العودة إلى تلك السياسات يحمل في طياته إضعاف عمليات الاندماج التي شكلت خاصية للعولمة، أما الاتجاه الأخر في المعالجة فهو ما يسمونه سياسات التقشف، وبعبارة أخرى يقترحون مزيداً من الفقر والبطالة وتدهور الشرائح الوسطى، وفي كل ذلك عامل من عوامل تعمق الأزمة. ويتمركز جهد الاقتصاديين الرأسماليين على ضخ المليارات في البنوك المأفلسة، لكن سياسة التقشف تقطع سبل النهوض بتلك البنوك. وبحكم الآليات الرأسمالية تعود تلك البنوك إلى الإفلاس بحكم الخلل في الاستهلاك الاجتماعي وتراجعه وهو ما ينعكس على الإنتاج وتطوره. وهكذا فإن كل الحلول والاقتراحات الرأسمالية تعمق الأزمة وتكسبها ديمومة، وتجدد إنتاجها المتواصل وهو المظهر الأعمق لانحطاط الرأسمالية وعدم قدرتها على تجديد ذاتها بصيغ متطورة.
تفرض الأزمة الراهنة سياسات جديدة على الدول الإمبريالية رغم أنها تحافظ على جوهر السياسات الاستعمارية المعروفة، ولم تعد الحروب العالمية ممكنة، كما أن الميول العدوانية تظل في ظروفنا مقسمة بالتنسيق بين الدول الإمبريالية، وهذا الجديد في العلاقات له اسسه وضروراته الاقتصادية وهكذا فإن التناقضات الثانوية بين الدول الإمبريالية لا تتعدى مستويات محددة لا تسمح بحرب عالمية جديدة، إلا أنه والحرب تدمير للبنى التحتية وغيرها، فإن الحروب الأهلية التي تتزايد وتنتقل من مكان إلى آخر هي بحد ذاتها مؤشر على الانحطاط في إعادة إنتاج علاقات الانتاج الرأسمالية، إن تلك الحروب تتوخى التدمير الاجتماعي والتفتيت السياسي والجغرافي، وقد دفعت الولايات المتحدة العراق بهذا الاتجاه، كما تدفع حالياً بأفغانستان وجارتها باكستان، وتعتمد تغذية تلك الحروب على تأجيج مفاعيل العلاقات الأثنية المتخلفة، إن ذلك كله علامة أخرى على الاتجاه الانحطاطي للرأسمالية لتأمين استمرارية الرأسمالية كنظام عالمي. أما المفارقة الأهم فهي أن الدول الإمبريالية لم تعد في ظروف استمرارية الأزمة قادرة على الاستمرار في دعم النظم السياسية التي خدمت مصالحها لعشرات السنوات، وشكل هذا الميل ظاهرة لا تذهب في جوهرها نحو سيادة الديمقراطية وتأمين الحرية، إن الدول الإمبريالية ترى في تلك الظواهر مجالاً لجعلها ذات طابع تدميري للمجتمع، حيث تتعمق مفاعيل الطائفية والقبلية والعائلية، وهي ترى أن وضع الأزمة يتطلب صيغاً استهلاكية جديدة للبضائع في الدول «النامية»، ولا يوفر استيلاء أسر على ثروات دول بكاملها في تأمين ذلك.
وقد نجحت الدول الإمبريالية في تطبيق ذلك في ليبيا بصورة أساسية وذلك نتيجة عقلية القذافي التي رسخت لسنوات فكرة ملكيته لليبيا، وأحرزت انتصارات في اليمن نتيجة قصف علي صالح، وليس من العقلاني إبعاد الخطط الأمريكية عن المعارك الطائفية في مصر، ومن الخطأ التعبير عن الغضب على الإمبريالية والصهيونية بأعمال تدميرية. وتريد الإمبريالية استمرار الأحداث الدموية في سورية، وتسعى إلى تأجيجها ودفعها نحو التفاقم بحيث تصل إلى حرب طائفية.
إن الخطة الأمريكية فيما يتعلق بسورية تتلخص في أن المرحلة الأولى هي تغذية الصراع بالسلاح، وتعميق الانقسام الاجتماعي، إن شعارها الراهن «دعهم يتحاربون» للوصول إلى أعمق تدمير اجتماعي واقتصادي. ولا ضير إذا استمرت المرحلة فترة زمنية مناسبة لتحقيق ذلك التدمير، والمهم أن إشعال الحرب الأهلية في سورية هو ضرورة من الضرورات المعتمدة للتغلب على أثار الأزمة الرأسمالية، ومن غير العقلاني الذهاب مع الدعاية الأمريكية الذاهبة باتجاه الفيتو الروسي الصيني، فهي استثمرته اجتماعياً وسياسياً.
إن تغذية حروب طائفية وقبلية هو برهان أخر على انحطاط الرأسمالية ويدفع ذلك للتأكيد على أهمية مهمة الإنقاذ الوطني بعيداً عن أوهام انتصار أمني، فالإنقاذ يتوخى تأمين الوحدة الوطنية، وما من سبيل إلا تحقيق فعلي للوحدة الوطنية وسد سبل الأنشطة والممارسات الطائفية، وقد طرحت المرحلة ما يحتاجه الشعب السوري في ميدان العلاقات السياسات التي تتطلب دستوراً جديداً أساسه تأمين الحريات الديمقراطية وحرية التعبير والنشر وعدم العودة للأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، وذلك ما يحتاجه الشعب السوري حيث يتكون مناخ ناضج لبناء كافة مؤسسات الدولة بالاستناد إلى الانتخابات الديمقراطية الفعلية والحقيقية المعبرة عن إرادة الشعب السوري.