المراوحة بين الاحتلال الظاهر والمبطن (1-3)
لا يستطيع الاحتلال اليوم أن يفاخر بأنه قد حقق نصراً مشرفاً على الشعب العراقي بعد مضي كل تلك السنوات المريرة، ولا يستطيع خدم الاحتلال بكل أنواعهم ودرجاتهم التفاخر بأنهم قدموا شيئاً للشعب العراقي، لا على صعيد الحريات الديمقراطية، ولا على صعيد الحقوق الاجتماعية وإعادة البناء. فالعراق المحتل يعاني اليوم من فقدان أو تراجع خدمات الماء الصالح للشرب والكهرباء وكل أنواع الخدمات العامة الحيوية، وتسوده البطالة والرشوة وانعدام الأمن. وإن أقوى قوة عسكرية واقتصادية في العالم عجزت عما يُمكن أن تنفذه دولة نامية خلال نحو تسعة أعوام على صعيد إعادة بناء الطاقة الكهربائية وخدمات المياه التي دمرتها آلة الحرب العدوانية في العراق قبل وبعد احتلاله. أليس ذلك كله بسبب سياسة معدة سلفاً، وليس أخطرها سرقة وسلب ونهب الممتلكات والأموال العامة والخاصة، التي شارك فيها المحتل نفسه وعلى رؤوس الأشهاد إلى جانب خدمه.
إنهم جميعاً محليون ومستوردون وقوات احتلال سرية وعلنية كانوا لصوصاً بامتياز ومحترفي كذب وجريمة منظمة، فالعراق اليوم فقد هيبته وبناء دولته، وتضررت بشكل مفجع وحدته الوطنية، وتوغلت الأمراض المخيفة في مفاصله بجهود المحتل والطامعين وضعاف النفوس والإرادة. إن خدم الاحتلال حققوا لأسيادهم إمكانية الظهور بمظهر المتعفف عن البقاء في العراق، وليس المطرود منه واقعياً تحت ضربات أحرار الشعب العراقي ومقاومتهم الباسلة وبكل أشكالها ودرجاتها ومناطقها، وإن كانت هزيمة المحتل لم تصل إلى الدرجة الناجزة بعد. إن الخونة حاولوا بكل الوسائل والأساليب غير الشريفة منح الاحتلال غطاء شعبياً من خلال توزيع الأدوار بينهم وبينه، بما في ذلك استخدام المعارضة اللفظية والشكلية للاحتلال من بعض المطايا الطائفية، التي ركبها وركبها الاحتلال وكل الطامعين، وفي الوقت نفسه جرى العمل على ممارسة السلطات للقسوة الفظة ضد الشعب كله مع التركيز الظاهر على أجزاء أساسية منه لتعميق الفجوة بين مكونات الشعب، خاصة بين الفئات الأقل وعياً وتجربة على طريق الفتنة المتواصلة مع الحفاظ قدر الإمكان على التحكم بدرجات توترها حسب الحاجة المطلوبة في اللحظة المستهدفة، وهذه الحالة إذا استمرت فإنها تُصيب الشعب بمقتل محزن، وقد وصل الفساد والظلم والقمع إلى درجة جعلت الشعب بأسره مخيراً بين نارين، ويتساءل أيهما أرحم نار الاحتلال أم نار أدواته المحلية؟
ينفذ الاحتلال منذ عام 2003 سياسة ومخططات الاستعمار الجديد والعولمة الاغتصابية وسياسة السوق المخضبة بالجشع الاستغلالي والسرقة بالاعتماد على العناصر المحلية الفاسدة من كل حدب وصوب، ومن كل من له مصلحة أو على استعداد للنهب والسلب والسرقة التي لا حدود لها، ومواصلة سياسة إذكاء المخاوف بين أبناء الشعب الواحد، ومحاولات تدمير الروح الوطنية العراقية، التي تُمثل سقف حماية الجميع، ومصدر رفعتهم وتقدمهم ورفاهيتهم وفخرهم أو ما تبقى منها. كل تلك الجرائم تجري تحت سقف حكومة يقولون عنها أنها وطنية، وبرلمان يقولون عنه أنه منتخب، ودستور يقول عنه مجرم الحرب بريمر الحاكم المدني الأمريكي السابق للعراق المحتل في آخر تصريح له: إنه من أفضل دساتير منطقة الشرق الأوسط، ولا يخجل ذلك الوغد من الإدلاء بمثل هذا التصريح بعد أن عرف القاصي والداني ما حل بالعراقيين من انهيار في جوانب الحياة كافة. وغني عن البيان ذكر أعداد القتلى وضحايا التهجير الطائفي والقتل على الهوية والمفخخات الديمقراطية والإرهابية بما فيها مفخخات الأخوة الإسلامية والعربية. لقد أصبح العراق مرتعاً للصوص وكل هواة الكسب السريع دون رادع من ضمير أو قانون، وأصبح بلداً يعج بالمقابر والأرامل والأيتام وأطفال الشوارع والأمية والتعصب وكل مرض ظهر على وجه الكوكب منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، بلد تغطيه من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه ومن أقصى شرقه إلى أقصى غربه الشركات والمشاريع الوهمية والرشى الابتزازية والأغذية المسمومة، بلد يُقتل فيه العلماء والأطباء والمبدعون، وتتواصل فيه عمليات إخلائه من أفضل مبدعيه وعقوله في كل المجالات والاختصاصات وآخرها الفصل الكيفي لأساتذة الجامعات، وهي آخر ما تبقى للبلد من رافعات النهضة العلمية والإنتاجية وإعادة الأمل، وتجري كل هذه العمليات القذرة والرعناء تحت لافتات سئم الشعب منها، تجرى تلك الجرائم تحت وصاية وحماية قوات زعيمة «العالم الحر وحقوق الإنسان ومبادئ التسامح وسيادة القانون» يا للعار على كل الصامتين على تلك الانتهاكات الإجرامية، التي تهدد كيان الوطن العراقي الذي قرروا إعادته علانية إلى العصور الحجرية أو إلى ما قبل الصناعة في أحسن الأحوال. بات العراق بلداً ترعى حكومته العناصر، التي تحولت إلى أدوات قتل وابتزاز وتهديد وترصد، وتغمض العيون وتصم الأذان عما يحل بأفضل العقول العراقية في الداخل والخارج، وليس حال أبناء هذا الوطن في الخارج بأحسن مما هم تحت الضيم المباشر في داخله.
أين «مشروع مارشال» العراقي الذي وعد به المحتل عشية عدوانه؟ مع الأخذ بالفارق الكبير بين إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وبين إعادة بناء العراق. دمرت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا أوروبا، وكان في ذهن الحلفاء حينذاك إعادة بناء أوروبا إضافة إلى التحرير قبل ذلك. ولكن عندنا المحتل هو الذي دمر العراق خلال حرب احتلاله، وقبل ذلك من خلال الحصار، وجاء إلى العراق بوعد إعادته إلى ما قبل المجتمع الصناعي. هذا فضلاً عن هذا الفرق الهائل بين دور الغرب عامة في منطقتنا وفي أوروبا، فإذا كان الوعد في أوروبا البناء الحقيقي فعندنا في منطقتنا كان الدور هو دعم كل الحكومات الرجعية والديكتاتورية لتسهيل مهمة الانقضاض عليها عند الحاجة لذلك، وقد شجع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة روح العداء بين شعوب المنطقة، وهو يفعل ذات الشيء في الوقت الراهن، وقد واصلت واشنطن وغيرها سياسة تدمير العراق ما بعد الاحتلال حتى يومنا هذا. إن المحتل يلعب اليوم دور الشرطي والقاضي في الوقت نفسه، ومع فارق أساسي عما حصل في أوروبا، وهو إنه عندنا المحتل يدمر ولا يبني شيئاً.
نعم، على الرغم من كل تلك الظروف القاهرة فقد صمد العصب الحي للشعب العراقي في أقسى مواجهة وقعت في ظل النظام الدولي الجديد منذ تفكيك الإتحاد السوفيتي ودول مجلس التعاضد الاقتصادي. ولكنه صمود شديد التكلفة، تلك التكلفة التي أجبرت الشعب بأسره على دفعها. ولكنها تكلفة أعادت الاعتبار خلال معارك التحرير إلى الوحدة الوطنية لحد ما، وإلى النضال من أجل الحقوق وفضح أعداء حرية العراق واستقلاله واستقراره وتقدمه، ولكن علينا في الوقت نفسه أن لا نهون من إفرازات الضغوط اللئيمة ومختلفة المصادر والأغراض، التي وقعت على كل أبناء الشعب الأحرار، وإن كانت بنسب متفاوتة من حيث الحجم، ولكنها واحدة من حيث النوع والهدف.
إن الاحتلال في ورطة وهو يحاول إخراج مسرحية تضمن له بقاء عملائه في موقع السلطة وإدارة شؤون البلاد، وضمان هيمنته على مقدراتها، وتجنب المزيد من الخسائر من خلال لعبة طرح مشروع الانسحاب وإثارة الغبار السميك حوله، مرة حول العدد وأخرى حول الحصانة لجنوده. فحول العدد يتحدثون تارة عن إبقاء أعداد تبدأ من 12 ألف عسكري، وأخرى تصل إلى 160 مدرباً عسكرياً فقط. وأخيراً جاء إعلان الرئيس الأمريكي عن انسحاب قواته بالكامل في الموعد المقرر نهاية العام الحالي. لا ننكر أن حيرة المحتل ترتبط بعوامل عديدة منها ما هو أمريكي داخلي، ومنها وما هو دولي، وربما لإتاحة المجال أمام خطط لاحقة في المنطقة أشد هولاً، هذا إلى جانب كل الاحتمالات الأخرى الممكنة تسعى واشنطن إلى إشاعة حالة من الغموض الدائم حول خططها اللاحقة إلى حين أن تُعلن المشاريع عن نفسها تحت ضغط ضرورات التطبيق الفعلي لها. مع الاعتراف بما سبق ذكره وبكل الفرضيات الأخرى يظل الدور العظيم والدور الأساسي لمقاومة شعبنا العراقي بكل أشكالها ودرجاتها في تحقيق درجة معينة من إسقاط الاحتلال وكشف مشاريعه غير المعلنة، خاصة وإنه لم يعد يملك السيطرة الكاملة على العالم بأسره في ظل بروز متاعبه القديمة والجديدة، إن الإسقاط الكامل للاحتلال لن يكون كامل الوضوح والنصر إلا بعد إسقاطه وطرد قواته وعملائه وأدواته المحلية وقراراته الجائرة، إن خدم الاحتلال لا يعرفون تماماً خططه اللاحقة، وهذا ما يُفسر حالة الهلع والتخبط الذي ينتاب لصوص بغداد اليوم.