الحرب على الفقراء حركة «احتلوا وول ستريت» وأخلاقيات السياسات المالية
مرت عقود عديدة ونحن نخوض الحرب، لا في أفغانستان أو العراق فقط بل هنا، داخل الولايات المتحدة. فعلى الصعيد المحلي، كانت الحرب معلنة على الفقراء دوماً، ولا عجب إذا لم يكن أحد أعارها الانتباه، حيث لا تنشر الصحف المحلية أعداد ضحايا هذا النوع من الصراعات ولا تعرضها نشرات أخبار القنوات الليلية. فمرت الحرب المهلكة المدمرة على الفقراء دون أنيلحظها أحد، حتى الآن.
ترجمة قاسيون
لكن بروز حركة «احتلوا وول ستريت» حوَّل قضية تمركز الثروة في جيوب نخبة المجتمع إلى موضوعة مركزية في السياسات الأمريكية، ويبشر الآن بتسليط الضوء على حيثيات الفقر ووقائعه في هذه الولايات المتحدة الأمريكية. وباتخاذها من وول ستريت هدفاً رمزياً، وتعريفها لنفسها كحركة تمثل التسعة والتسعين بالمائة من السكان، لفتت حركة «احتلوا وول ستريت»انتباه الناس إلى قضية الظلم الاجتماعي وتفاوت توزيع الثروة الحاد، معيدة إياها إلى جذرها كقضية أخلاقية.
بينما، حتى وقت قريب مضى، اقتصرت موضوعة «الأخلاق» في السياسة على الأفضلية الجنسانية، أو الأصل التناسلي، أو السلوك الشخصي للرؤساء. وغابت السياسة الاقتصادية، بما فيها إعفاء الأغنياء من الضرائب والإعانات وحماية الدولة لشركات التأمين والأدوية، خلف ضباب البروباغاندا وحملات الدعاية، أو اعتـُبرت ببساطة أعقد من أن يفهمها المواطنالأمريكي العادي.
أما اليوم، وخلافاً لأي يوم مضى على الإطلاق، فقد انقشع الضباب وبات الموضوع المطروح على الطاولة للنقاش، في كل مكان، هو أخلاق رأس المال المالي المعاصر. وتمكن المتظاهرون من طرحه بهذه الصيغة من خلال القوة الرمزية لنشاطاتهم، أي تحديدهم قلب الرأسمالية المالية، وول ستريت، عدواً، ومن خلال استقبالهم للمشردين، وتقدمهم المتدرج إلى المواقعالتي يحتلونها. وكذلك، بالطبع، كرر شعار «نحن الـ99%» رسالة معاناة غالبيتنا من الوقوع في براثن استغلال القلة الفاحش لنا. (حيث الزيادة في دخل أغنى 1%، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تعادل ما فقده الـ80% الأفقر من السكان).
تعيد الدعوة الأخلاقية لحركة «احتلوا وول ستريت» إلى الذاكرة لحظات تاريخية سابقة، حينما ولدت الانتفاضات الشعبية فكرة «الاقتصاد الأخلاقي» لتبرير مطالبتها بالخبز أو الحبوب أو الحد الأدنى الكافي من الأجر، كمعايير للعدالة الاقتصادية.
عموماً، اعتاد المؤرخون إحالة الأفكار الشعبية عن الاقتصاد الأخلاقي إلى العادات والتقاليد، مثلما أحال المؤرخ البريطاني «إي. بي. تومسون» فكرة «السعر العادل» للمواد الغذائية الأساسية، التي ولـّدها متمردو القرن الثامن عشر الإنكليز، إلى التشريعات الإليزابيثية التي كان عمرها آنذاك قد بلغ قروناً طويلة. غير أن فقراء الثوار ببساطة ما كانوا يوماً متشبثينبالتقاليد، ولم ينتظروا أوامر القضاة لتحدد سلوكهم إزاء انتزاع ما يعتبرونها حقوقاً مكتسبة، بل أخذوا على عاتقهم فرض كل ما اعتبروه أساساً لاقتصاد أخلاقي عادل.
الحملة الاجتماعية ضد الفقراء
بدأ الهجوم أثناء الخنق الشديد لحركة تحرر السود في الستينيات. وتجلى بوضوح في الحملة الفاشلة للمرشح الجمهوري باري غولدووتر في انتخابات عام 1964 الرئاسية، مثل وضوحه حتى في الحملات الانتخابية المتتالية للحزب الديمقراطي، كحملة العنصري جورج والاس حاكم ولاية ألاباما. وأضافت حملة ريتشارد نيكسون الانتخابية في عام 1968 إلى الهجوملمستها.
فقد أشار العديد من المعلقين إلى أن إستراتيجية حملته الانتخابية الظافرة لعبت على أوتار العداء العرقي المتنامي، ليس بين بيض الجنوب وحسب، بل وفي صفوف بيض الطبقة العاملة في الشمال التي وجدت نفسها فجأة تتنافس مع الأمريكان الأفارقة المتمدنين حديثاً، على فرص العمل والخدمات العامة والسكن وحتى في حملات القضاء على التمييز العنصري فيالمدارس. وسرعان ما امتزج موضوع التمييز العنصري مع حملة دعائية سياسية تستهدف الفقراء وبرامج مساعدتهم الحديثة الإنشاء. وبالفعل، في حقل السياسة الأمريكي، أصبحت مفردات الفقر، الإعانة، الأمهات العازبات، الجريمة، كلمات مشفرة تدل على السود!!
ومع الزمن، حاول الجمهوريون المستعيدون لنشاطهم هزيمة الديمقراطيين من خلال ربطهم بالسود وبسياسات ليبرالية تهدف إلى تخفيف حدة الفقر. وكانت إحدى النتائج بروز «الحرب على المخدرات»، سيئة الصيت، التي تجاهلت كلياً كبار التجار المهربين ولاحقت صغار الجناة في قلب مجتمعات المدن، إلى جانب تنفيذ برنامج موسع لبناء السجون والمعتقلات، فضلاً عن«إصلاح» شامل لبرنامج تقديم المساعدة النقدية للأسر المعيلة لأطفال. وبهذا الفصل الدرامي من الهجوم بدأ البيزنس واليمين المنظـّم حملة شرسة ضد العمال دامت عقوداً.
فلم تكن مجرد حرب على الفقراء، بل كانت من نوعٍ ينطبق عليه مصطلح «الحرب الطبقية» ذاته الذي يستخدمه الجمهوريون حالياً كمسبـّة لكل نشاط لا يستسيغونه. الحقيقة أن الحرب الطبقية كانت هدفاً أعلى للحملة ما لبث طويلاً حتى اتضح في السياسات التي أدت إلى إعادة توزيع شامل لأعباء الضرائب، وتعديل الخدمات الحكومية من خلال الخصخصة، تخفيض الأجوروإضعاف النقابات، وتحرير البيزنس والمصارف والمؤسسات المالية.
هكذا كان الفقراء (والسود) مادة مفيدة للاستخدام دوماً في الخطب الرنانة، والتضليل الدعائي، للفوز بالانتخابات وحصد المزيد من المكاسب. وبما أن الخطب الرنانة ما تزال هامة حتى اليوم، يقوم جيش كامل من المفكرين والمنظمات السياسية واللوبيات في العاصمة واشنطن بنشر وترسيخ فكرة أن مشاكل البلد كلها معلقة برقبة الفقراء الذين أفسدهم «كرم» برنامجيالمساعدة والإعانة، وعزز كسلهم ونزعاتهم الإجرامية وانحرافاتهم الجنسية!!
ولم يمر زمن إلا وبدأت المعاناة من تقليص برامج مساعدة الفقراء وتخفيضه الذي تم تحت غطاء بروباغاندا كاسحة، في انتهاك شامل لشبكة الأمان الحامية للفقراء والعمال معاً، خاصة ذوي الدخل المحدود منهم، أي النساء والأقليات. وعندما دخل رونالد ريغان البيت البيضاوي في عام 1980، كان الطريق ممهداً لإجراء تخفيضات أكبر في برامج مساعدة الفقراء،وبحلول التسعينيات تلقف الديمقراطيون المحابون للبيزنس الكبير، أثناء لهاثهم خلف دولارات ضروراتهم الانتخابية، بيرقَ الحملة، والجميع يذكر أن بيل كلينتون هو مـَن رفع شعار «إنهاء الإعانة كما عهدناها»!
الحركة في سبيل اقتصاد أخلاقي
على الصعيد الفيدرالي، سرعان ما وجدت الحرب على الفقراء صدى لها في أروقة الكونغرس حيث تنشط منظمات مثل «الاتحاد الأمريكي من أجل الأطفال»، «المجلس الأمريكي للتبادل التشريعي»، «معهد الحرية»، «شبكة التخطيط السياسي»، الطامحة جميعها لزيادة وزن لوبياتها بأجندات تشمل الخصخصة الواسعة لقطاع الخدمات الاجتماعية، وتخفيض الضرائب عنالشركات، وعرقلة قوانين حماية البيئة والمستهلكين، وشلّ نقابات القطاع العام، وفرض تدابير بيروقراطية (مثل بند إرفاق الصورة الشخصية!) من شأنها أن تحدّ من وصول الطلاب والفقراء إلى صناديق الاقتراع. وبما أنها كلها كانت تستهدف الفقراء بدأت تظهر مجدداً عواقب الحياة الحقيقية من تخفيضٍ جديد لبرامج الإعانة خاصة للأسر المعيلة لأطفال، بالتزامن معشن حملة فرض «القانون والنظام» التي أدت إلى احتجاز الكثيرين من السود. ثم أتى الركود الكبير ليزيد طين هذا الاتجاه بـِلة.
يذكر «معهد السياسات الاقتصادية» أن رب الأسرة النموذجية التي شهدت انخفاضاً في دخلها بمقدار 2300 دولار بين عامي 2000 و2006، خسرت مجدداً 2700 دولار من دخلها بين عامي 2007 و2009. وعندما بدأ ما يسمى بـ «التعافي»، أي الانتعاش غير المؤكد، بدأ أساساً في الصناعات ذات الأجور المتدنية، فواصلت الصناعة التعاقد مع الشغيلة بينما فقدت سوقالعمل نسبة 6.1% من مدفوعات الأجور! أما الاستثمارات الجديدة، فيما لو وُجدت، كانت تعتمد على الإنفاق على الآلات لا على تجديد اليد العاملة، وبقيت بالتالي معدلات البطالة عالية تنذر بالكارثة الوشيكة. وبتعبير آخر، عزز الركود ميل السوق نحو تخفيض الأجور وفقدان الأمان فيما يتعلق بالوظائف والأشغال.
وكذلك دفع الركود إلى تقليص جديد في برامج الرعاية الاجتماعية. لأن المساعدات النقدية أصبحت صعبة التأمين بفضل ما سمي بـ«إصلاح» الإعانة، وشلت برامج الدولة الاحتياطية لتقديم المساعدات مما زاد العبء على برنامج «الطوابع الغذائية» الاتحادي لإعانة الفقراء. أما البرنامج المحدث «للمعونة الغذائية الملحقة» القائم على المِنـَح بموجب القانون فقد حاولالكونغرس على الدوام تخفيض المنح المقدمة إليه وحتى تحويل بعضها إلى الدعم الزراعي، بينما ما زال يتم منع «الطوابع الغذائية» عن أي عائلة يشارك أحد أفرادها بإضراب عمالي، وفشلت كل الجهود المبذولة لتغيير هذه الحال.
ولا تنفك منظمات اليمين تسوّغ سياساتها القاسية المعادية للفقراء بحجج «أخلاقوية». فمنظـّرو الجناح اليميني ومواقعه مثلاً تتفزلك بالحديث عن الأثر النفسي المؤذي للأطفال الفقراء المعاقين جراء كونهم «عالة» على برامج المساعدة العامة! أو تتندر بأن أسباب تدقيقهم المعونات المقدمة للفقراء من النساء الحوامل والأطفال تكمن في سعيهم لتحقيق مكاسب أكبرللأطفال الرضع!
مذهل هو هذا الجهل المتعمد ومذهلة هذه القسوة. والذهول هو كل ما أجدناه طيلة عقود. ولذلك كنا بأمس الحاجة لحركة تدعو إلى نمط اقتصادي أخلاقي جديد، لعل حركة «احتلوا وول ستريت» التي عدّلت مسار الحوارات الوطنية تكون هي شرارة البداية.
■ عميدة في جامعة «سيتي يونيفيرسيتي»/ نيويورك