المراوحة بين الاحتلال الظاهر والمبطن 2-3
إن إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن قرار سحب كل القوات الأمريكية من العراق في نهاية هذا العام 2011 بعد مرور نحو تسعة أعوام على الغزو الأمريكي للعراق يعني أن هذا القرار في حاله تنفيذه سيكون خطوة مهمّة على طريق الاستقلال بأحد معانيه الأولية لو كان حقيقياً طبعاً، ولكن مجرد الكلام عن الانسحاب والعمل على تغطيته يثير أسئلة حول الغزو نفسه، وحول الغزو منذ بدايته، وعن الخطوة الأخيرة منه وتكتيكاته وإستراتيجياته، هل أمريكا فعلت كل ما فعلت لوجه الديمقراطية؟ وهل تركوا العراق كما كانت عليه الحال أم أكثر سوءاً وتمزقاً في نسيجه الاجتماعي الداخلي إلى درجة أغرت كل من هب ودب على الطمع به؟
نقول: ربما هذا الطمع الإقليمي هو ما تسعى إليه واشنطن، وتتمنى أن يحصل على طريق مخططاتها الجهنمية تجاه المنطقة بأكملها، قويها قبل ضعيفها، وطامعها قبل أو بعد المطموع به، خطوة ربما على طريق توريط الآخرين بتهديد العراق أرضاً وشعباً، وفي هذه الحالة يُصبح باب التدخل العدواني أسهل على الأقل من حيث الحصول على عدم اعتراض من بعض الدول المؤثرة في مجلس الأمن الدولي، هذا إلى جانب انفتاح أبواب التموين من المصادر الإقليمية أيضاً، ويعتقد هواة الحرب فيما وراء الأطلسي بأن الاعتراض على التموين الواسع من دول المنطقة لن يكون واسعاً بسبب الخوف من التهديد المباشر.
إيران على الرغم من كراهيتها الظاهرة للوجود الأمريكي في العراق، الذي مهدت له حسب إعلان قادتها أنفسهم، فإنها تقلق من انسحابه لأن الانسحاب يُشكل إخلالاً في ثنائية الحضور الأمريكي- الإيراني في العراق، حيث تستطيع من خلال تلك الثنائية أن تساهم في تدعيم أركان الدولة البوليسية المخابراتية القمعية في العراق المحتل الذي امتد نفوذها إليه، وإن قسماً من عار هذه الجريمة تكون واشنطن شريكة فيه بجدارة، وخير دليل على الأفخاخ التي تنصب للشعب العراقي الاعتقالات الأخيرة، التي أخذت طابع إجراءات احترازية ضد قادة الجيش العراقي السابق وأعضاء حزب البعث، وتعمدت السلطة والاحتلال اقتصار تلك الإجراءات على أبناء طائفة واحدة، أو على الأقل أن أعداداً غفيرة من سكان المنطقة هكذا بدؤوا يعتقدون. وإن تشديد الاتهامات بالإرهاب والبعثية، وتوجهها ضد كل من يقول لا للاحتلال ولا للقمع بما حول تلك الاتهامات إلى سيف مسلط ضد الأبرياء من أبناء مناطق بعينها ومسخرة رعناء وجبانة وطنياً، وقد يكون ذلك دافعاً رئيسياً وراء إعلان مجلس محافظة صلاح الدين المحافظة إقليماً بموجب دستور الاحتلال الملغوم أصلاً، وربما تتحرك كتائب أو جيوش الإرهاب الحكومي لاحقاً تجاه صلاح الدين لضرب ما قد تصفه بالتمرد وما إلى ذلك، وذلك كله من أجل إعداد المسرح العراقي لأكثر من احتمال وفق تطورات الواقع نفسه، حيث يؤدي إلى تخوف المواطنين من المستقبل، وإضعاف العراقيين من أجل دفعهم للاستعانة بالآخرين المتربصين بهم في الداخل والخارج، وربما تحويل الموقف إلى ذريعة للبقاء الأمريكي على طريقة الخيارات المفتوحة أو لإلقاء المسؤولية على طرف آخر في العراق أو المنطقة لتبرير حروب أو اعتداءات أخرى جديدة أشد خطورة على المنطقة بأسرها. إن اللعب بالنار بات خطيراً جداً على مستقبل الشعب ووحدة أراضيه.
إن الحديث عن الانسحاب الكامل على الهيئة التي عرضناها قد يكون الدافع إليه فتح شهية الطامعين بالعراق شعباً وأرضاً، وكذلك لتشجيع الضواري المحلية لنهش لحم بعضها، وقبل ذلك سحق ما تبقى من عظام الشعب وفقرائه الخاوية، وما التلويح بالخطر الإيراني بعد (..) أن فتحت القوات الأمريكية المحتلة أبواب العراق للقاصي والداني إلا أحد الهواجس للتبرير والتخويف والتمهيد للخطط غير المعلنة، إن الحديث الأمريكي على هذا الصعيد يتطلب المزيد من الحذر للأطراف المحلية إذ قد يكون كمياً لكل الأطراف المحلية وفي الجوار التي دفعها خوفها وجشعها إلى إنزال المزيد من الأضرار الماحقة بالشعب العراقي، تلك الأعمال التي لن تخدم القائمين بها، وإنما سوف تكون وقوداً لتدميرهم هم أنفسهم، وإن غداً لناظره لقريب.
الشرهون عبر الأطلسي في ظل أزماتهم المتلاحقة هم في العادة يحاولون إعماء الحقيقة، فعندما قرروا غزو العراق قالوا عن الجيش العراقي بأنه رابع جيش في العالم، ولديه أشد أسلحة الدمار فتكاً، وعندما حل استحقاق الانسحاب الشكلي أو أجبروا على هذه المناورة الرعناء بفضل عناد الشعب العراقي وقواه الوطنية التي لا تعرف المساومة مع الغزاة، بدؤوا الحديث عن العراق وكأنه خلو من أية كفاءة عسكرية، ويحتاج إلى كم هائل من المدربين «الأسياد».
ستكون حصيلة الوجود الأمريكي الباقي في العراق عشرات آلاف العسكريين في حالة إعلان الانسحاب الكامل، الذي سينفذ على طريقة (قلب الهيئة أو تبديل القميص)، وبغض النظر عن موجات الكذب الحالية، ومن خلال لملمة أوراق الصورة الممزقة المنثورة حول هذا الموضوع هنا وهناك، هذا طبعاً إذا لم يُطرحوا صيغة أخرى، خاصة إذا علموا أو وجدوا أن لقمة كذبتهم أكبر من فم نشاطاتهم اللاحقة على الأرض، وستبقى الحصيلة في نهاية العام وفي كل الأحوال على النحو التالي: 16 ألف عسكري لإدارة وحماية السفارة الأمريكية في بغداد والقنصليات في أربيل والبصرة وغيرهما، ورأس جسر عسكري قوي في كل المطارات المدنية والعسكرية الأساسية في بغداد، الموصل، البصرة وأربيل وغيرها، هذا غير القواعد العسكرية في مدينة بلد وعين الأسد والحبانية وبرامج تدريب الشرطة العراقية. إن الانسحاب يعني في الواقع وعملياً توفير شروط للمعيشة المدنية رفيعة المستوى لعساكر المحتل، الذين يفترض أنهم انسحبوا، وذلك عبر برامج تدريب الشرطة وحماية المناطق الإستراتيجية والأجواء، فضلاً عما ذُكر سالفاً، هنالك إمكانية لبقاء أكثر من خمسة آلاف عسكري بصفات مدنية أخرى، وبضعة آلاف من العاملين في الشركات الأمنية المعروفين بارتكاب فظائع في طول العراق وعرضه وغير ذلك من أشكال البقاء بما فيهم المتعاقدون الذين يسيطرون على أهم الوظائف الحكومية، طبعاً هذا إلى جانب الفيالق المحلية متعددة الولاءات والخالية من الولاء للعراق وشعبه، وكذلك يتركون لنا إفرازاتهم من اللوثات الطائفية والعرقية والأنانية الشخصية وروح التكسب.
لقد دفع الاحتلال ثمناً صعباً في معارك المقاومة الوطنية، ولكن بالمقابل علينا الاعتراف بجملة حقائق لتسديد خُطا النضال الوطني من أجل الكنس الكامل للاحتلال وإفرازاته الشائنة، ومن أجل الحرية وكنس اللصوص بكل اللافتات التي يقفون خلفها، علينا الاعتراف بأن القوى الوطنية لم تنجح في كشف الجرائم التي ترتكب بهدف تشويه سمعة النضال التحرري الوطني، ولم تنجح في منع وقوع تلك الجرائم قدر الإمكان. وإن قوى التحرير عجزت عن تحقيق الحد المناسب من الوحدة والتنسيق والتضامن فيما بينها.
هذه الملاحظات تأتي قبل أسابيع من الرحيل المفترض للمحتل، واليوم نعود مجدداً لنقول إن حبل الكذب قصير ومادته لا تصمد أمام ضوء الوطنية العراقية، التي برهنت على أرض الواقع بأنها طريق النجاة الوحيد الذي هو بيد القوى الوطنية العراقية، التي حافظت على شرفها الوطني، وتحملت كل صنوف القتل والقمع والعذاب والحرمان والتشويه والدسائس....