حول قضية محمد رشيد.. المال السائب والمناصب السائبة أيضاً
قبل أيام أصدرت محكمة جرائم الفساد التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، حكماً غيابياً بالسجن خمسة عشر عاماً، على المدعو «محمد رشيد» (أو خالد سلام) المستشار الاقتصادي السابق للمرحوم «ياسر عرفات». وطالبت المحكمة «سلام» بتسديد مبلغ خمسة عشر مليون دولار، وحل شركة الاستشارات الإدارية المملوكة له، ومصادرة أموالها وممتلكاتها، كما طالبته برد عشرات الملايين من الدولارات التي اعتبرتها المحكمة مسروقة من أموال الشعب الفلسطيني، واتهمه ومساعديه بجرم غسل الأموال.
بالتزامن مع نشر قرار محكمة جرائم الفساد، أصدرت اللجنة المركزية لحركة فتح بيانا، نشرت فيه جانبا من الغسيل القذر لمحمد رشيد، وصفته فيه «بالمجرم» و«الهارب من وجه العدالة، والقضاء الفلسطيني». وقال بيان مركزية فتح: «إن الشهيد ياسر عرفات كان اكتشف دور رشيد المشبوه عام 2000، أثناء مفاوضات كامب ديفيد، بين عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إيهود باراك برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، عندما حاول تمرير مشروع اتفاق يقضي بانسحاب إسرائيلي من 92% من أراضي الضفة الفلسطينية، والموافقة على ضم 7% من الأراضي الفلسطينية لإسرائيل، والاكتفاء بتبادل 1% فقط من أراضي الضفة الغربية مع الجانب الإسرائيلي، الأمر الذي رفضته القيادة الفلسطينية....»
يسرد البيان بعد ذلك وقائع عن لقاءات سرية لرشيد مع الصهاينة، الذين طلبوا منه تمرير مشروع الانسحاب والتبادل، المشار إليه أعلاه، وتلقيهم وعدا منه بذلك. وكيف أفشلت القيادة هذا الأمر، إلى أن يصل للحديث عن كون رشيد، «أحد عرابي حصار الرئيس ياسر عرفات» وأنه هرب إثر استشهاد الرئيس عرفات..الخ. ورفض تسليم الملفات المالية، والكشف عن مصادر ثروته.
أسئلة بريئة حول بيان ساذج
من يقرأ بيان مركزية فتح، يشعر بحالة البؤس الشديد التي صارت إليها الحركة الفلسطينية الرائدة. وسوف يحزنه بلا شك، أن تضطر فتح إلى تقديم هذه السردية الغبية، وهي تتوهم أنها تدافع عن نفسها، وتدين «اللص» و«العميل» بحسب منطق البيان نفسه.
ولعل أول سؤال يخطر على بال من يقرأ بيان المركزية هو: لماذا بعد كل هذا الصمت؟ وإذا قرر القارئ تأجيل محاولة الإجابة لبعض الوقت، اندفع سؤال آخر إلى ذهنه، وهو: كيف أمكن لهذه «العلقة التافهة» المسماة محمد رشيد (أو خالد سلام)، أن تكون في موقع، يؤهلها لأن تقدم تعهدات بتمرير اتفاق تسوية، على هذا المستوى من الخطورة، والتدخل في مسار قضية تهم ليس فقط الشعب الفلسطيني، بل الأمة العربية كلها، على الأقل؟
سؤال آخر: طالما أن هذه«العلقة» على هذا المستوى من الخطورة، وطالما أن الرئيس عرفات(يرحمه الله) اكتشف خيانته في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، فلماذا سمح له بالبقاء إلى جانب الرئيس، حتى اغتياله؟ أي لأكثر من أربع سنوات.
أيضا وأيضا، لماذا أوكل إلى هذا «العميل» بالذات، أمر التفاوض على إبعاد عناصر المقاومة من كتائب شهداء الأقصى وغيرها، من كنيسة المهد إلى غزة، وإلى خارج فلسطين، بنص مفخخ حرم هؤلاء المواطنين المناضلين الفلسطينيين، من العودة إلى بيوتهم حتى الآن؟
وأيضا، لماذا تركت أموال منظمة التحرير الفلسطينية بيد «اللص» بعد سنوات من اكتشاف دوره المشبوه عام 2000؟ أم أن الشبهة السياسية، بحدود الخيانة شيء، وإدارة المال السائب شيء آخر؟
ثم، نحن اليوم في عام 2012، ولنفترض أن رشيد استطاع خداع الرئيس عرفات حتى استشهاده، وأن دوره قد كشف في حصار الرئيس، فلماذا لم تنبس المركزية الموقرة ببنت شفة حول هذا الموضوع، طوال أكثر من سبع سنوات؟ مع التقدير أن المشاركة في حصار الرئيس عرفات، تعني المشاركة في قتله.
الأسئلة البريئة والسؤال الجوهري
من المتصور أن عرض كل الأسئلة السابقة، يقود إلى سؤال جوهري يتصل بالتوقيت. وعندما نأتي إلى ذكر التوقيت، فسوف يكون هناك من يقول: «لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل». والآن، من يذكر قصة محمد دحلان، حليف رئيس السلطة محمود عباس سابقا، قبل أن ينفض السامر؟ ما يحدث اليوم مع رشيد، حدث سابقا مع دحلان. القصة ببساطة، هي: إن نشر الغسيل الوسخ يتم عند الاقتراب من رئيس السلطة محمود عباس. حينها يتم استخراج ملف من الدرج ونشره على الملأ. تتذكر المركزية دورها، وتنبري للدفاع عن عباس. نعم عن عباس، وليس عن فتح، وليس عن فلسطين، ولا عن قضيتها.
لو كان الأمر دفاعا عن فتح، وعن فلسطين، وأموال الشعب الفلسطيني، لتوجب أن يكون رشيد ومعه كثيرون، ممن يشتمونه اليوم في السجون، على الأقل. لأن الحرص على أموال المنظمة، وأموال الشعب الفلسطيني، لا يحتمل الانتظار لسنوات كثيرة، وإلى أن يمس «اللص» برئيس السلطة.
والحقيقة أن الحساب هو أوسع من ذلك بكثير. الأمر لا يمس المال السائب فقط. بل المناصب السائبة أيضا. جاء «رشيد» أو «سلام»، من شمال العراق، ل«يناضل» في صفوف المقاومة الفلسطينية. هذا حق. بل واجب لا نناقش فيه. ولكن الصحفي المغمور، المناضل، شق طريقه مسرعا، من صفحات مجلة« فلسطين المحتلة» ليصبح قريبا من الرجل الثاني في فتح، الشهيد خليل الوزير، المسؤول العسكري لفتح، وقائد العمل في الأرض المحتلة. ومن مكاتب الشهيد أبو جهاد، قفز إلى حضن ياسر عرفات، ليصبح بسرعة، مقررا في السياسات الفلسطينية، ومستشارا اقتصاديا للرئيس، ثم عضوا في وفود التفاوض، يعطي الصهاينة وعودا بتمرير اتفاق. كيف يمكن أن يحدث هذا في صفوف حركة وطنية، تواجه عدوا قل نظيره؟ المال سائب. فهمنا. ولكن المناصب سائبة أيضا. وسياسات الاستزلام والفساد، جعلت من هذه « العلقة» المشبوهة، شخصا مقررا في مصير الحركة الوطنية الفلسطينية.
اليوم يطل«رشيد» أو «سلام» عبر شاشة فضائية ( وهنا يمكن أيضا السؤال عن التوقيت من زاوية أخرى، نظرا لمرجعية القناة السعودية)، ليتحدث عن تاريخه «النضالي» وكأنه محرر القدس، وبطريقة، يخجل منها المناضلون الحقيقيون في مسار الكفاح الوطني الفلسطيني. وهو في تنافخه، ونسبة أدوار لنفسه، أساء لكثيرين، وربما تناول عباس بشيء ما، أغضبه منه، فحرك القضاء واللجنة المركزية. هذا النوع من الغضب، أنتج ردا يغضب كل مناضل فلسطيني وعربي، ليس على «علقة»، تحاول أن تجد لها مكانا على هامش التاريخ، بل من سلوك قيادات أضاعت الكثير، ولا تثور إلا عندما تشتم بشكل شخصي، أما جرائمها الكثيرة، ومنها وجود المتنافخ في هذا الموقع، فلا تريد لأحد أن يذكرها. فما بالك في أن يحاسبها؟