سورية والوصاية
الجامعة العربية، المفروض أن يكون وجودها لمصلحة أعضائها، وللمصلحة العربية العامة، لمصلحة التحرر العربي قبل كل شيء، التحرر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولمصلحة التضامن في منظور وحدوي، التضامن السياسي، وإقامة مؤسسات اقتصادية وثقافية مشتركة، إلخ.
غير أن الجامعة العربية، تلك المؤسسة الإقليمية الهامة، والتي يمكن أن يكون لها وزن دولي كبير، لو أرادت، تلعب منذ تأسيسها في أربعينيات القرن الماضي دوراً مغايراً للمنظور العربي.
فلسطين احتلت في أربعينيات القرن الماضي، وكان للجامعة الوليدة دور معروف، وغير معروف في جوانب منه، في نجاح الاحتلال، وفي توسعه، وفي شطب الاسم الفلسطيني بإلحاق الأجزاء التي زادت عن الاحتلال بهذا البلد أو ذاك، ثم استمر الاحتلال يزداد قوة ورسوخاً، واستمرت الجامعة بأعضائها تزداد ضعفاً وتبعية للرأسمالية الدولية مهندسة الاحتلال، وبقيت فلسطينوالفلسطينيون يعانون، وبقي أعضاء الجامعة عموماً بعيدين عن الموضوع، أو يعالجونه لمصلحة الاحتلال والرأسمالية الدولية، ويباد الشعب الفلسطيني اليوم، وتتركه الجامعة العربية لمصيره، وكأن الأمر لا يخصها، بل تساعد إلى هذا الحد أو ذاك على تصفية الملف الفلسطيني، فالرباعية، وخطط الطريق، ليست سوى خطوات نحو تلك التصفية.
عندما حاصرت الإدارة الأمريكية العراق في تسعينيات القرن الماضي، كانت دول الجامعة أقسى وأشد حصاراً، على العراق من الدول الأخرى، وكان الأمن العربي لا علاقة له بالعراق أو عمليات سلمت مفاتيح الأمن العربي للإدارة الأمريكية عبر مختلف القواعد العسكرية والتسهيلات، وعندما احتل العراق ساعدت الجامعة العربية عموماً الاحتلال.
اليوم تستهدف الإدارة الأمريكية سورية، والسيد أوباما يأمر الرئيس السوري بالرحيل، وكأن الرئيس السوري موظف عنده، مجرد هذا التصرف من الإدارة الأمريكية، يستوجب موقفاً من الأمم المتحدة، ومن دول العالم، لأن ما تفعله ضد سورية، فعلته، وتفعله ضد مختلف دول العالم. فعلته ضد الاتحاد السوفيتي، وضد يوغوسلافيا، واحتلت غرانادا، وبنما، والعراق، اليومأفغانستان، إلى أخر السلسلة. ودول الجامعة العربية نفسها كانت من ضحايا الإدارة الأمريكية، فـ«الربيع» العربي هو «ربيع» أمريكي أطاح برؤساء غير مأسوف عليهم، ولكن ليأتي بوجوده أشد قسوة على شعوبهم، واشد خضوعاً للمخططات الأمريكية وهذا «الربيع» قد يشمل في المستقبل البعيد أو القريب الرؤساء الذين يساعدون اليوم تلك الإدارة ضد سورية.
سورية بصرف النظر عن نظامها وتقويمه هي رقم في معادلة إقليمية خطرة على كامل المنطقة.
اليوم مثلث إيران وحزب الله وسورية يؤلف قوة ذات ترسانة عسكرية مزعجة بالنسبة لإسرائيل ولأمريكا في الوقت نفسه. وجرت محاولة للتخلص من حزب الله اللبناني في تموز 2006 وباءت بالفشل، وتتالت المحاولات التحريضية للفتن في لبنان عبر مسرحيات المحكمة الدولية ونشاطات المخابرات الأمريكية والإسرائيلية ولم تنجح حتى الآن على الأقل.
واستهدفت سورية بآلاف المدربين في الخارج، وبأطنان الأسلحة المهربة، وبتقنيات إعلامية هائلة.
من جملة الوسائل، التي استعملت مسجلات تخبـأ ويتم تشغيلها عن بعد، فتزعق بالهتافات، وكأن مظاهرة عارمة تسير، وتنقل مع إضافة صور جماهيرية على الفضائيات.
طبعاً حصلت مظاهرات في سورية، وكان مخططاً لها الإخراج نفسه لمظاهرات تونس ومصر، بيد أنها فشلت، ولكن كلفت قوات الأمن الكثير من الضحايا، وما تزال تكلف. هناك جيوب للمسلحين هنا وهناك، وهناك روافد لهم، وتهريب الأسلحة مستمر، والمعركة مستمرة، ولكن ستكون خاسرة في النهاية، فاللعبة أصبحت مكشوفة، ومتى أصبحت كذلك يصبح التعامل معهاسهلاً.
على الصعيد الداخلي معارك الإدارة الأمريكية هي غالباً خاسرة وستكلف الشعب السوري المزيد من الضحايا.
على الصعيد الخارجي، وجد أولاً السيناريو الأطلسي التركي. قرار من مجلس الأمن ثم عدوان تركي لـ«حماية» الشعب السوري، تحصل من أجله تركيا على مساعدة مالية كبيرة، وتتوغل وتحتل حتى حلب، وتهدي الأطلسي، أو الإدارة الأمريكية لا فرق، قواعد عسكرية في المنطقة الشرقية.
المخطط فشل، لأن القرار اللازم لم يصدر عن مجلس الأمن رغم استماتة السيد آلان جوبية لإصداره، ولأن سورية ليست لقمة سهلة لتركيا، التي تنسى إداراتها مصالحها الإقليمية، وتزداد ارتباطاً بالأطلسي.
المخطط المرافق يعتمد وياللأسف الجامعة العربية، فهذه المؤسسة، التي من المفروض، أن تنحاز إلى سورية، لا إلى مخططات الإدارة الأمريكية، اجتمعت وقررت إنذار سورية ووضعها تحت الوصاية.
إنذار لأسبوعين.. الأمر الذي لم تفعله الإدارة الأمريكية، ثم ورقة تعليمات يجب أن تتقيد بها سورية، وإلا...
وقبلت سورية الورقة، ربما لأنها لا تريد أن تنسلخ عن الجامعة وتقضي الورقة من الجملة على الحوار مع المعارضة الاستمبولية، في ظل الجامعة العربية، والمعارضة إياها لا ترضى بأقل من إسقاط النظام في سورية، أي يجب أن يحاورها النظام فقط على رأسه.
سواء جرى الحوار أو لم يجر، وبقي «الأشقاء» متمسكين بمواقفهم، أم لا، فإن النظام لن يقبل غالباً التنازل للإدارة الأمريكية من خلال معارضي استمبول.
الإدارة الأمريكية قامت بتأليب حتى الجامعة العربية ضد سورية، وهي بذلك تعتقد، أنها تستطيع كمرحلة أولى أن توظف أدوات أقوى لها داخل النظام، تستطيع التمهيد للخطوة التالية، وهي الانقضاض الإسرائيلي، أو الأمريكي.
المشروع مغر، ولكنه خطر، لا على سورية فقط، وإنما ايضاً على الإدارة الأمريكية التي تترنح تحت ثقل أزماتها.
إذا كان احتلال العراق قد تسبب للعالم بالأزمة المالية الشاملة، فإن الحرب الإقليمية، إذا ما جرت سوف تجر إلى انهيارات دولية عديدة.
في كل الحالات لن تكون سورية تحت الوصاية، ويتمنى المرء أن يعيد الأشقاء النظر في مواقفهم، وأن يتحولوا إلى المواقف العربية بدلاً من الأمريكية.