سلطة العار... مجدداً

سلطة العار... مجدداً

لم تكشف وثائق قناة الجزيرة «المستور» فقط، بل قامت بمسح مساحيق التجميل عن الوجوه البلاستيكية، اللزجة والبشعة، لتظهر الحقيقة عارية، علها تسقط الغشاوة عن عيون البعض! قطاع واسع من أبناء شعبنا وأمتنا، لم تعقد الدهشة لسانه، كما فعلت بصائب عريقات في اليوم الأول لنشر الوثائق، لأن مضمونها لم يكن مفاجئاً للمتابعين والمهتمين، لسبب بسيط وواضح. فالوظيفة التي جاء اتفاق أوسلو سيئ الصيت، للقيام بها، عبر تقديم التنازلات، التي تقود للتخلي عن الوطن، وعن ثوابت القضية الفلسطينية، بدأت بالظهور العلني المبكر، على يد قيادة سلطة الحكم الذاتي المحدود.

مع استكمال نشر الوثائق التي تابعها عشرات الملايين، تكون بعض سجلات المفاوضات «الإسرائيلية»– الفلسطينية قد أصبحت بين يدي أعداد متزايدة من أبناء الشعب. هذه الوثائق وصفتها هيئة تحرير صحيفة «ذا غارديان» البريطانية قبل أيام، بأنها «رسالة الانتحار الأطول في التاريخ»، مضيفة «إنه من الصعب تحديد من يرتسم بصورة أسوأ؛ القادة الفلسطينيون الضعفاء والجبناء والمتحمسون لكيل المديح لنظرائهم «الإسرائيليين»، أم «الإسرائيليون» المهذبون في كلماتهم والمحتقِرون في أفعالهم، وربما الأمريكيون بالذات والذين تتجلى حياديتهم في تهديد الضعيف وشد أزر القوي. هذه الأطراف الثلاثة تعمل سوية على إقامة دولة دمية باسم فلسطين تكون فاشية في أحسن الأحوال، وبديلا لقوة الاحتلال في أسوأ الأحوال».

 هذه هي السلطة/الدمية التي لا تملك أية شرعية في سلوكها السياسي، بل وفي مسوغات وجودها، طالما أنها تتنازل، وتتخلى عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني. بضعة أفراد، هم وكلاء مصالح لمئات من «القطط السمان»، ومتعهدون «رسميون» لتنفيذ المخططات الاستعمارية/ الصهيونية، القذرة، التي يحاولون عبثاً، «تجميلها»! وهؤلاء هم المعتمدون لدى بعض الأنظمة العربية «المعتلة». لكن كل هذا الغطاء الدولي والإقليمي لن يستطيع توفير الدعم لهذه السلطة على الاستمرار للأبد، على الرغم من المليارات التي تدفعها الدول المانحة، التي يذهب معظمها لشبكات الفساد الواسعة داخل السلطة. لن يستطيع كل اؤلئك إقناع الملايين، بأن فلسطين التاريخية ليست وطنهم. وبأن القدس العربية الموحدة ليست عاصمة وطنهم السيّد، المحرر.

بذات الليلة التي بدأت فيها «الجزيرة» نشر فضائح السلطة، كان محمود عباس يتحدث في القاهرة أمام رؤساء تحرير الصحف المصرية، وعدد من الإعلاميين. تحدث عن «خياراته» السلمية، وعن علاقة هذه الخيارات بالاستحقاقات، التي حددها بـ«الاستحقاق الأول: إعلان الرئيس الأمريكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي أنه يأمل أن يرى دولة فلسطين عضواً كاملاً في الأمم المتحدة في سبتمبر المقبل». أما «الاستحقاق الثاني: أن الرباعية الدولية اتفقت على أن تبدأ المفاوضات في سبتمبر الماضي وتنتهي في سبتمبر المقبل». أما «الاستحقاق الثالث: فهو  فلسطيني، فنحن تعهدنا إننا خلال مدة عامين تنتهي في سبتمبر أن ننشئ كل مقومات الدولة الفلسطينية، ونحن في سبتمبر نكون قد انتهينا من إقامة جميع مقومات هذه الدولة ومؤسساتها». لكن اللافت في حديثه لوسائل الإعلام، كان الموقف/ اللغز! يقول عباس إن «القيادة الفلسطينية، ستتخذ قراراً لم يخطر على بال أحد إذا فشلت الخيارات المطروحة بشأن عملية السلام... إننا لن نعلن عن هذا الخيار إلا بعد شهر سبتمبر القادم بعد أن يتم الانتهاء من الاستحقاقات الثلاثة».

فجأة، تعود لغة التهديد للحديث الرسمي لرأس السلطة. لكن مصير الوطن والشعب، لا يخضع للعبة الكلمات المتقاطعة، ولا لأحجية «حزر... فزر». فما نراه على أرض الواقع في الضفة المحتلة، يشي بالمزيد من التنازلات، وبتصعيد متواتر من «القمع والغلاء والفساد» التي يعاني منها المواطن، (إلى جانب) الاضطهاد الذي يلاحق كل من يعترض على سياسة السلطة، وعلى الاحتلال. وتتنوع مظاهر ذلك، مابين الاعتقال، وتكميم الأفواه، الذي كانت آخر تجلياته، محاولة الاعتداء على مكتب قناة الجزيرة في رام الله المحتلة، والغلاء الذي دفع بالعديد من النقابات للتهديد بالإضراب المفتوح من أجل زيادة الرواتب وضبط الأسعار. أما الفساد ورموزه، فهو مادة الحديث اليومي في جلسات الناس، خاصة، ما يتعلق بسرقات «الكبار» الذين تفتح ملفات بعضهم، وتغلق سجلات آخرين، حسب درجة الفضائح، ومستوياتها، ورموزها.

لم تكن وثائق «كشف المستور» سوى إعلان صاخب عن حالة موت معلن لسلطة، توفر الخدمات للاحتلال منذ سنوات. سلطة لا تسوق الوهم، عن السلام والاستقرار والتنمية، بل تسعى للتنازل عن الوطن. وحصاد السنوات العجاف الأخيرة، لا يترك مجالاً للتأويل أو الالتباس، حول طبيعة الدور الذي وُكلت به هذه السلطة.

في ظل عرض هذه الحقائق على مئات الملايين، تكون لدى قوى المقاومة، الفلسطينية والعربية، مادة تحريض مباشرة، أصبحت تمتلكها حالة شعبية/ مجتمعية، يمكنها أن تؤسس، لقيام أطر سياسية تعمل على لعب دورها التاريخي في الحفاظ على المشروع التحرري للشعب والأمة، في تطوير وتصعيد المواجهة مع كيان العدو الصهيوني، والمخططات الإمبريالية.

إن قدرة الجماهير العربية تتضح يوماً بعد يوم، وما تشهده أكثر من ساحة عربية، يشير إلى أن مرحلة جديدة بدأت في الظهور، بفعل التحرك المجتمعي الواسع في وجه قوى، تمارس القمع والاضطهاد، وتسرق لقمة العيش الكريمة من فم المواطن، وتقيم علاقات مع كيان العدو الصهيوني، وتفتح بلادها لنهب قوى الرأسمالية المتوحشة. إن أكثر من مدينة وعاصمة عربية على موعد قريب مع  أيام «الغضب الساطعة»، ولن تكون مدننا العربية الفلسطينية بعيدة عنها.