خطر يهدد وحدة العراق
جبران الجابر جبران الجابر

خطر يهدد وحدة العراق


◄ 

 

تجتاح العراق حمى تحول المحافظات إلى أقاليم، وتجد هذه العملية سندها في الدستور والقوانين المقرة من الهيئات التشريعية المركزية، ولا تجد الحكومة المركزية (حكومة المالكي) سنداً قانونياً أو دستورياً يحميها من معارضة هذه العملية التي تتوقف في نهاية المطاف على إرادة مواطنيها الذين يحسمون الأمر في استفتاء يعتمد على الأغلبية وإرادتهم في التحول من محافظة إلى إقليم، ولأن المالكي لا يملك سنداً دستورياً، فقد لجأ إلى الأسباب السياسية التي رأى فيها مسعفاً لمنع تلك العملية، مع تجاهل أن سياساته لعبت دوراً محورياً وأساسياً في ذلك التوجه، وقد طرح المالكي في هذا السياق حجة سياسية مفادها أن عملية التحول يراد منها حماية البعثيين والحيلولة دون محاسبتهم على أفعالهم «المعادية» للحكم والساعية إلى الانقلابات العسكرية وإعادة الحكم البعثي إلى العراق، ويرى المالكي ومناصروه أن ذلك إعادة لدكتاتورية صدام حسين على ايدي مجموعاته الباقية في نشاط مستمر في تلك المحافظات.

إن عملية تحول المحافظة إلى إقليم تجد تعبيرها الملموس في إقليم كردستان العراق، وقد تضمنت المراجع القانونية كثيراً من الميزات التي تضعف هيمنة المركز، ويحق للإقليم أن يؤلف حكومته وأن يكون له رئيس وأن يشكل قواه الأمنية، وله موارده الخاصة وميزانيته، ويتمتع بحق توقيع الاتفاقات مع الشركات الأجنبية والدول إن هذه العملية تجري في سياق الخلافات المزمنة، وإذا أردنا وضع اليد على مفاصل الظاهرة وأبعادها وعللها، فإنها تعود إلى أسباب عديدة وتكونت في ظروف الاحتلال الأميركي وقبله، حيث استشرت الطائفية، وتكونت مجموعات مسلحة طائفية ولم يستطع المالكي أن يمضي في المعالجة السياسية لتأمين الوحدة الوطنية، وسعى وجماعته إلى اعتبار التيار القومي وصمة عار وأنه لا يتجاوز عقلية صدام، ونسب إليها مؤخراً الشروع في مؤامرة انقلابية عسكرية كان نتاجها مئات المعتقلين في محافظات الوسط والجنوب العراقي، وإن تمركز المالكي على هذا الجانب في معارضة تلك العملية ذهب نحو إغفال الخطر الأساس من آفاق هذه العملية وتجاهل تداعياتها اللاحقة التي لا يمكن إبعاد تفتيت العراق إلى كانتوتات. لقد اعتمد المالكي في مواجهة مجموعات البعث بعد صدام حسين على الحلول الأمنية والتدابير الزجرية غير القانونية، ولم يميز بين بعثي وآخر وأدخلهم في نطاق القاعدة، فكانت السجون الواسعة وأساليب التعذيب، ناهيك عن حرمانهم من حقوق سياسية طالت العديد منهم، وشكل لذلك لجاناً خاصة، وقذف بالمئات بعيداً عن وظائفهم وأعمالهم.

لقد افتقر المالكي إلى نظرية تطورية للظاهرة، وخلط بين مكونات التيار القومي كافة وخصائص صدام حسين الشخصية ناهيك عن الوضع العراقي والإقليمي الذي لا يسمح ولا يكون أساساً كي يفكر التيار القومي بانقلاب لإعادة «الصدامية» منهجاً وسلوكاً وخصائص وممارسات وعقلية، لقد نظر المالكي إلى الظواهر السياسية بوصفها ثوابت لا تتأثر بالمستجدات العراقية والعربية والإقليمية، إن المجانين وحدهم يمكن أن يفكروا بانقلاب عسكري في العراق بما فيهم عقلية البورجوازي الصغير الذي ينفد صبره سريعاً ويتحول تحت ضغط الظواهر من الموجب إلى السالب، من الوحدة إلى الانفصال، فبنية الجيش وعقيدته تغيرتا خلال هذه السنوات، وإيران جار ذو باع طويل في العراق باعتراف مختلف الأطراف ناهيك عن جيش الصدر والبشمركة الذين لا يمكن أن يقفا على الحياد في معركة مع «بقايا» صدام حسين التي يتخذها المالكي فكرياً وسياسياً واجهة لكل الممارسات والأداء التي لا تؤمن الوحدة الوطنية وتحول دونها ممارسة الصلاحيات الأمنية على أساس القوانين العراقية والاستناد إلى موجبات الديمقراطية. إن عداء التيار القومي عملية غير موضوعية ولا تسعف في فرز الغث عن السمين وهي تؤدي إلى محاصرة الديمقراطية ثم وأدها وتمنح الطائفية المناخ الأرحب صدمة ربما لم تخطر ببال المالكي، كانت بداياتها في محافظة صلاح الدين، فالمعالجات الخاطئة والفئوية والطائفية، لم تكن إلا عامل انحطاط لكل القوى السياسية العراقية، عاملاً يؤسس إلى بدايات فرط وحدة أرض العراق، والمهم لا يتوقف على خطبة وطنية معادية للاحتلال، لأن الأهم هو ماذا ترسخ أبعاد الشخصية القيادية في الوعي الاجتماعي. لقد جرى التمادي في الذهاب نحو التدابير الطائفية التي لعبت دوراً ضد الاحتلال الأمريكي، لكن تبعات ذلك وتداعياته وجدت تأثيرات في المزاج والوعي الاجتماعي، وأكدت أن المؤسسات الدينية يمكن أن تلعب دوراً وطنياً إيجابياً في ظروف معينة، إلا أن ذلك ليس ثابتاً وشاملاً لكل الحالات والتكوينات الطائفية. أليس مظهراً للانحطاط أن يلجأ التيار القومي إلى تدبير خطر يمكن أن يشكل الفصل الأول في فصول تقسيم العراق؟ وهل الوضع الإقليمي يتعدى كونه مراقباً وأن قواه الأساسية ستجد المناخ الأوسع للتدخل في الشأن العراقي، ألا يمكن أن تنتهي عملية التحول إلى أقاليم إلى خطر تكوين كانتونات ترعاها دول أساسية في المنطقة وتنهي السيادة الوطنية فعلياً إلى مندوب سام في كل إقليم.

إن معالجة وطنية جادة مازالت ممكنة وهي حلول سياسية ولا تقوم على اساس الانطلاق في الماضي الصدامي لمعالجة وطنية حقاً تؤمن المصالحة الوطنية فعلاً والوحدة الوطنية وتستند إلى الديمقراطية وسيادة القانون ومحاربة الطائفية والتخلص من عقابيلها.

إن تلك العملية تطرح في ظروف خطرة قد تؤدي إلى تفتيت العديد من الدول ومهما كانت مزايا الإقليم لكن هذه تداعيات تلك العملية تتطلب أنه يمكن أن تكون تلك العملية تمهيداً لتفتيت العراق، ولكن هذه المرة لن تكون نتاج الطائفية فقط، بل ستكون نتاج الفكر القومي الضيق الأفق والهارب من المهام الوطنية نحو الأمجاد الشخصية.