عن الجريمة ضد كنيسة الاسكندرية
جريمة التفجير التي أودت بحياة عدد كبير من المسيحيين، وإصابات لعدد آخر، ليلة عيد رأس السنة الجديدة بكنيسة القديسين بالإسكندرية هي حدث غاية في الخطورة، سواء من حيث المستهدفون، أو التوقيت، أو التداعيات.
عقب الجريمة مباشرة كانت ردود الفعل الحكومية باهتة، وتوحي بأن المآل هو قيد القضية ضد مجهول! بفعل حدة الاحتجاجات واتساعها من المسلمين والمسيحيين على السواء، شاهدنا على شاشات التلفزيون (المصري أساساً) أكثرية ساحقة من الجهلاء أو المغرضين الذين تم تقديمهم كخبراء استراتيجيين وأمنيين زادوا الطين بلة. بينما لم تعط فرصة لخبراء حقيقيين لكشف الستار عن الكامن وراء الجريمة. وهذا ما يؤدي خدمة للمستفيدين من هذه الجريمة من جهة، وصرف نظر الشعب المصري بعيداً عن كارثة الانتخابات، وكذا عما يدور في الاقليم من جهة أخرى. وبالتزامن مع هذه الهلوسات انطلقت أعداد من السياسيين الحكوميين للقاء رجال الكنيسة للمواساة والعناق (المنافق). وكلها أفعال لا تؤدي إلى أية حلول، ولكن في أفضل الأحوال يمكن أن تهدئ قليلا من الاحتقان لفترة محدودة.
في مصر، خاصة في ظروف الأحداث المأساوية الكبرى، كثيراً ما تروج أفكار تتخذ وجهة من اثنتين. الأولى أن الحدث من صنع عدو داخلي، والأخرى أنه من صنع عدو خارجي. وكلتا الوجهتين خاطئ وزائف. فالعدو داخلي وخارجي في آن. جناحاه تابع داخلي ومتبوع خارجي. ولذلك فإن تجاهل أي من الطرفين يقود إلى أخطاء فادحة. ففي مصر وما يماثل ظروفها من بلدان، يتمثل العدو الداخلي في الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية، أما العدو الخارجي فهم السادة الامبرياليون وعلى رأسهم الأمريكيون والحركة الصهيونية وكيان عصاباتها المحتلة لفلسطين، وذلك بحكم المصالح المشتركة والحماية المتبادلة لهذه المصالح، من وضعية التابع والمتبوع ذاتها، أي العبد والسيد. وكلا الطرفين يوجه نيرانه إلى الغالبية الساحقة من جماهير الكادحين مسلمين ومسيحيين ويمتص دماءهم.
استهدف انقلاب السادات عام 1971 تدمير مشروع التحرر الوطني والانجازات التقدمية. هيأ لذلك كما هو معروف بصنع وإطلاق قوى إرهاب إسلامي في مواجهة الشيوعيين والناصريين، ثم– وبحكم التطور– تم توجيه هذه القوى إلى العداء للمسيحيين. كان ذلك مقدمة لتمرير مشروعه الكامل للردة إلى سيادة الرأسمالية التابعة في مصر وما صاحبها من سياسات اجتماعية وصولاً إلى الصلح مع العدو.
بالتلازم مع ذلك أطلق السادات على نفسه صفة «الرئيس المؤمن» ثم الترويج لطرح نفسه «خليفة للمسلمين» وإعلانه بأنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة يعيش فيها مسيحيون». وتصاحب ذلك بتحويل الخطاب الديني الإسلامي من خطاب تعبئة وطنية وعدل اجتماعي إلى وجهة معاكسة بالاستعانة بمشايخ مصريين استدعاهم من السعودية حيث كانوا يقيمون. ونتيجة لذلك تم اختراع عدو داخلي بديل عن الطبقة الرأسمالية التابعة التي نمت، وللعدو الخارجي الصهيو– امبريالي. لكن الأمور أفلتت متجاوزة الخط المرسوم فتم اغتيال السادات. بعدها لم يتعدل الخط المرسوم، إذ استمر المسار نفسه وتعمق في عهد مبارك، حيث تعمقت السياسات الاقتصادية– الاجتماعية المعادية لمصالح جماهير الكادحين وتعمقت التبعية. وفي ظل كل ذلك تفاقم التعصب والانغلاق، ونمت نزعات التكفير لأبعد حد لدرجة أن أحد المشايخ الذين يقودون تيار التكفير في المجتمع لديه طاقم كبير من المحامين لإقامة الدعاوى بتكفير المسلمين خاصة من المثقفين. وساعد على ذلك الفراغ السياسي الناتج عن إضعاف الحياة السياسية وترويض الأحزاب والغالبية الساحقة من النخبة السياسية مقابل مكاسب تافهة حيث فقدت مصداقيتها في المجتمع، إضافة لتأثير التمويل الأجنبي، وشيوع الفساد إلى حدود غير مسبوقة. وتوجيه كل السهام لقوى المعارضة الجذرية ومحاصرتها.
في هذه الظروف المعقدة، وحيث تم اغتيال المشروع الوطني، وغابت الإستراتيجية وحل مكانها أسلوب العمل يوماً بيوم، وتجري عملية استلاب للدولة من مجموعات من اللصوص الذين سلبوا الثروة، وإزاء القمع والإرهاب الجسدي والروحي ضد المجتمع بمكوناته من مسلمين ومسيحيين تحت ضغط أزمة وطنية واقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة، فإن حساسية شديدة تصيب المسيحيين خصوصاً إزاء الإرهاب الديني، يشعرهم بالاضطهاد، وتحديداً مع ممارسات تحمل هاجس المواطنة غير المتساوية. وهو ما يدفعهم للتحصن والاحتماء من المخاطر على أساس ديني وطائفي لم تعهده مصر. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتشكل ردود فعل، والدخول إلى الدائرة الجهنمية من الشحن والتعبئة المتبادلة بتأثيراته وتداعياته التي لا يعرف أحد مداها.
في ظل كل ذلك اختلط الحابل بالنابل، وتهيأت الساحة تماماً لتدخلات خارجية مرئية وغير مرئية لتسعير الفتنة عبر اختراق العدو للبلاد خصوصاً على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية، وتصاعد توجيه السهام والعداء لكل قوى المقاومة في العالم العربي والإسلامي.
في هذا المناخ يسهل النفاذ للشباب اليائس والبائس والعاطل، الذي تم تجريده من حق الحياة ومن القدرة على التفكير، ومن روح الانتماء، وتحولت قطاعات منه إلى مجرد كائنات يسهل توظيفها لأي عمل خارج إطار الفعل ضد العدو الحقيقي لشعبه وأمته. وفي الجريمة ضد الكنيسة يمكن أن تكون أدواتها مصرية، بينما التدبير والإعداد لجهات أجنبية معادية صهيو– أمريكية كأصحاب المصلحة في الفتنة وتفجير الوطن.
لقد تمت العملية لاحقة ومتزامنة مع عدد من الأحداث الهامة المصرية والعربية، في مقدمتها:
- اكتشاف وضبط شبكة التجسس الإسرائيلية الأخيرة.
- ما كشفت عنه الوثائق التي أذاعها موقع ويكيليكس عن رفض الجيش المصري تغيير عقيدته. إذ أن عقيدة الجيش المصري تتلخص في أن العدو هو الكيان الصهيوني. وذلك الهجوم المنحط الذي تضمنته الوثائق على قيادة جيشنا الوطني الذي يكن له العدو الصهيو- امبريالي كراهية مطلقة.
وهو ما يؤكد ان الجريمة كانت بمثابة رد على هذين الحدثين سواء كانت بأيد مصرية وتخطيط صهيو– أمريكي ، أم كانت بكاملها أجنبية تخطيطاً وتنفيذاً.
يضاف إلى ذلك:
- تصريحات مدير «الموساد» السابق عن اختراقه لكل البلدان العربية.
- ما يحدث على المستوى العربي من تمزيق للكيانات الوطنية (السودان نموذجاً).
لقد جاء التوقيت معبراً عن أن الهجمة الصهيو - أمريكية لا تضع أي اعتبار للاعتدال المبتذل، ولا لاتفاقيات السلام المزعومة، وبأن لا أحد سوف ينجو، وأن ما عجزوا عن تمريره بالسلاح وأجهضته قوى المقاومة الباسلة في العراق ولبنان وغزة وأفغانستان والتصدي الإيراني والصمود السوري، يمكن أن يمر عبر الفتن استهدافاً للتفتيت الذي لا يستثنون أحداً منه. وبالرغم من ذلك فقد استقبل مبارك رئيس وزراء العصابات المحتلة لفلسطين، وكأن شيئاً لم يحدث.
إن علاج الجريمة المرتكبة ضد أخوتنا المسيحيين لا يمكن أن يكون أمنياً أو جزئياً أو بالترضيات والأحاديث المنمقة، ولكنه يكمن في تحقيق مشروع وطني يرسي المواطنة المتساوية وتكافؤ الفرص بين جميع المصريين. مشروع يسير باتجاه معاكس تماماً لما قام به السادات ومبارك. وهو الأمر الذي لا يمكن انجازه في ظل السلطة الحاكمة.