سوق «البَالّة...» ملاذ اقتصادي أمام موجة الغلاء، وقوننته أمر لا مفرَّ منه!
رشا عيد رشا عيد

سوق «البَالّة...» ملاذ اقتصادي أمام موجة الغلاء، وقوننته أمر لا مفرَّ منه!

كانت وما زالت أسواق الألبسة المستعملة «البالة» ملاذاً للمفقرين أصحاب الدخل المحدود، هرباً من الأسعار المرتفعة للألبسة الجاهزة الجديدة في الأسواق المحلية، لكن أمام عاصفة ارتفاع تكاليف المعيشة وتآكل القدرة الشرائية التي تزداد جنوناً، باتت اليوم الخيار الوحيد لمعظم السوريين من مختلف الطبقات الاجتماعية للحصول على الجودة والماركات العالمية ذات القطع المميزة (اللقطة) وبأسعار مقبولة نسبياً، كما أنها تصمد طويلاً مقارنةً بالمنتجات الوطنية مرتفعة الثمن والأقل جودة في بعض الأحيان.

فهذه التجارة كانت ممنوعة في عهد السلطة الساقطة وتدخل بضائعها بطرق غير رسمية (تهريب)، وها هو الحال اليوم لم يحرك ساكناً بل ازداد انتشارها وتعددت مصادرها دون حسيب أو رقيب وسط فراغ تشريعي يسمح بالاستغلال والتلاعب، وسياسات تتأرجح بين المنع والتساهل.  

الإقبال يزداد يوماً بعد يوم


الألبسة الجديدة التي باتت أسعار بعضها بالدولار، تفوق قدرة المواطن المادية وتجعله يعيد ترتيب الأولويات، لتصبح محال الألبسة المستعملة والبسطات المنتشرة في كل مكان مقصد الفقير وميسور الحال على حد سواء، فتتلاشى معها النظرة السلبية المُخجِلة المرافقة لمشتري «البالة».
فمثلاً سعر الجاكيت يتراوح بين 100-150 ألف ل.س في أفضل الأحوال مقارنة بالجديد الذي وصل إلى نحو 700 ألف ل.س، لكن هذا الإقبال لسد الحاجة والإيفاء بالغرض لم يسلم من جشع واستغلال الباعة والتلاعب بالأسعار وفق معادلة الجودة والمصدر ومرونة البائع، وإن كانت من بسطة متواضعة أو من إحدى واجهات المحال التجارية، وذلك كما يحلو للبائعين في سوق مفتوح بلا ضوابط، وخاصة القطع النادرة ذات الماركات العالمية المشهورة تحت عنوان «ألبسة أوروبية نظيفة»!
وكيف لا؟!
فهذه الألبسة من الحاويات المغلقة إلى أرفف المحال، تدخل «مهربة» دون أي رقابة صحية من فحص وتعقيم بما يضمن السلامة العامة، وهذا ما حذرت منه منظمة «الصحة للجميع»، من انتشار أمراض جلدية أو حساسية بسبب الألبسة المستعملة. 
كما أنها عمقت نمطاً استهلاكياً يعتمد على «البقايا» الأجنبية الرخيصة، مما يساهم في إحباط أي محاولة لإحياء الهوية الإنتاجية المحلية.

منافسة غير عادلة


خلال سنوات الحرب تم إغلاق أكثر من 40% من معامل النسيج الصغيرة والمتوسطة في حلب بينما الذي تبقّى منه يعمل بأقل من طاقته الإنتاجية، فهذا كان سبباً رئيسيّاً لغزو «البالة» التي تباع بأقل من كلفة الإنتاج المحلي، فالتاجر لا يدفع رسوماً ولا تكلفة المواد الأولية، مما يخلق منافسة مشوهة تقصي المنتج الوطني، ناهيك عن سياسات الأجور المجحفة والأسعار الجنونية التي فاقمت الأوضاع المعيشية وحولت الألبسة المستعملة من بديل مؤقت إلى خيار دائم «لا تُحمد عقباه».

القوننة أمر حتمي


التعليمات كانت وما زالت تمنع استيراد «البالة» لأسباب تتعلق بالصحة العامة وجهالة المصدر، إضافة إلى أنه أسلوب إقصائي للصناعة الوطنية، لكن هذا لم يوقفها بل دفعها إلى قنوات التهريب، ومضت عقود وأسواقها معروفة على الرغم من مخالفتها، لكنها عملت وما زالت تعمل من خلال سياسة الأمر الواقع وغض النظر الحكومي تحت ذريعة الحاجة للخدمات التي تقدمها للفقراء، لكن على ما يبدو كان وما زال هناك مستفيد من هذه التغطية شبه الرسمية!!
وإلا لماذا لم تتم قوننة هذا العمل حتى تاريخه لطالما خدماتها مطلوبة ولا يمكن إغفالها؟!

المطلوب


قوننة هذه التجارة وشرعنتها وفق قيود وشروط محددة، خاصة تلك التي تتعلق بالصحة العامة، وتبيان مصادر البضائع مع مراقبة تجهيزها وتعقيمها إلى تغليفها في بلد المصدر، كشرط للموافقة على السماح باستيرادها رسمياً، بالإضافة إلى الرسوم الجمركية والضرائب الأخرى، مع رقابة صارمة وضوابط على التسعير حسب الكلفة والجودة مع تحديد سقف للربح منعاً لجشع حيتان الاستغلال داخلاً وخارجاً.
فالحل ليس بالمنع الذي أثبت فشله أو بالتساهل والفوضى التي تغذي الفساد، بل بالآلية التي تنظم هذا العمل التجاري مع توليد إيرادات للدولة، وتضمن حماية المستهلك من فوضى التسعير وضمان الصحة العامة.

دروس وتجارب


فالأردن مثلاً سمحت باستيراد «البالة»، مما نظم السوق وقلل التهريب مع تخصيص جزءٍ من الرسوم لدعم برامج الضمان الاجتماعي، كذلك مصر التي سمحت بالاستيراد عبر شركات مرخصة تراقب الجودة وتفرض عقوبات على المخالفين، فهذه التجارب يمكن الاستفادة منها بدلاً من الاستمرار بسياسة «الفوضى المنظمة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1257