أرقام وسياسات منفصلة عن الواقع، والأسعار تلتهم القدرة الشرائية للمفقرين...!
رهف ونوس رهف ونوس

أرقام وسياسات منفصلة عن الواقع، والأسعار تلتهم القدرة الشرائية للمفقرين...!

رسائل طمأنة وتفاؤل تمثلت في وعود بانفراج قريب وتحسين واقع معيشة المواطن السوري، هذا ما حاولت السلطة الجديدة العمل على تحقيقه معوّلة على جدوى سياساتها الاقتصادية التي ستتبعها، محاولة بذلك ترميم القدرة الشرائية المتآكلة، لكن رياح الأسعار هبت كالعاصفة، واقتلعت أي آمال بتحسين الواقع، بل جعلته أكثر تعقيداً وقسوة، فاتسعت رقعة الفقر، وباتت أبسط متطلبات الحياة بعيدة عن متناول الغالبية بعد مرور عام على الوعود النظرية المتزامنة مع بيانات رقمية رسمية تؤكد تراجع معدلات التضخم، ما عمق الإشكالية حول حقيقة بيانات ورقية متحسنة وواقع معيشي متدهور!

انفصال عن الواقع


اُعتمِد اقتصاد السوق الحر التنافسي سعياً لتحسين مستوى المعيشة، لكن ازدادت أعباء المفقرين أمام غلاء فاحش وتحليق لأسعار الغذاء والسلع الأساسية والخدمات، بدلاً من المنافسة الشريفة وانخفاض الأسعار المرجوّ وسط غياب الرقابة الفاعلة، ليكون هذا الاقتصاد مجرد غطاء لحيتان الأرباح الذين يضاعفون مكاسبهم دون رقيب، بينما الغالبية المفقرة تكافح من أجل قوت يومها، وحتى الفتات من كل شيء والاضطرار لبيع أثاثها المنزلي.
فأسعار المنتجات الغذائية في السوق المحلي تشهد تحولات سعرية متسارعة متأثرة بالشماعة لأي متغير في سعر صرف الدولار.


جنون الأسعار


مثلاً، الزيت النباتي وصل سعر العبوة سعة «ليتر» اليوم إلى 28000 ل.س مقابل 18000 ل.س قبل عدة أيام، وهذا ينطبق على معظم المواد الغذائية كالأرز الذي سجل سعر الكيلوغرام 13000 ل.س والسكر 9000 ل.س، وحتى بعض الخضار والفواكه التي تتقلب أسعارها باستمرار وفق مزاجية التجار وأصحاب المحال التجارية، فكلٌّ على هواه لتتراوح الزيادة بين 20-40%، فمثلاً البرتقال 13000 ل.س والتفاح 12000 ل.س، أما أسعار اللحوم الحمراء فارتفعت بنسبة 15% ليتراوح سعر كيلو غرام لحم الخاروف بين 150-170 ألف ل.س، لتخرج من سلة الغذاء الأساسية وتصبح من الرفاهيات وسط رقابة نائمة وسوق منفلت، فالحكومة غائبة والدولة مغيبة كالمعتاد.
وفي المقابل، التاجر لا يفوت فرصة لرفع السعر «احتياطاً» لأي زيادات متوقعة مع تقلب سعر صرف الدولار، فذرائع التجار والحكومة تدور في حلقة مفرغة لتبرير الارتفاع بالاعتماد الكبير على الاستيراد، مع تأخر المستوردات، وضعف القيمة الحقيقة لليرة مع تراجع الإنتاج المحلي.


تكاليف المعيشة بالأرقام


وفق أحدث المؤشرات (مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة)، فالحد الأدنى لتكاليف المعيشة للأسرة السورية المكونة من 5 أفراد، وصل إلى نحو9,1 ملايين ل.س أما وسطي التكاليف تجاوز عتبة 14,5 مليون ل.س لعام 2025 ، وذلك مقابل أجور رسمية محدودة، فالراتب الحكومي وسطياً 850000 ل.س والذي لا يغطي الحد الأدنى من تكاليف المعيشة الأساسية، فالفجوة واضحة بين الدخل والتكاليف، وهذا الخلل بنيوي لا يمكن تجاوزه بتثبيت أسعار بعض السلع، أو انخفاض طفيف، فالفجوة أعمق من أن تُردم بالمسكنات، فمعظم الأسر السورية أعادت ترتيب أولوياتها لتقتصر على ما يبقيها على قيد الحياة!


الفجوة تتعمق


بين ما هو متوافر في الجيب، وما هو مطلوب للعيش بأدنى المستويات، ولا يحقق مستوى الكفاف من سلة الحاجات الأساسية والضرورية تأتي السياسات الاقتصادية التي تتقاطع مع النهج الحثيث لإنهاء الدعم مقابل تحسن محدود في الدخل مع الزيادة الأخيرة، غير آبهة بالأثر الاجتماعي العميق لذلك، فرفع الأسعار في اقتصاد هش وبنية سوق غير متوازنة لا يؤدي إلى إصلاح بل يعمق الفوارق الطبقية مع إعادة توزيع الدخل نحو الأعلى، وأوضح مثال، رفع أسعار الكهرباء التي تلتهم فاتورتها أكثر من 39% من الدخل المتوسط للمواطن، حسب خبراء، إلى الاتصالات والمحروقات، فالتصريح الأخير لحاكم مصرف سورية المركزي «عبد القادر حصرية» عن انخفاض التضخم بنسبة 15% والحديث عن التباطؤ الذي لم يتجاوز إطار الانخفاض الرقمي النظري لا يغير واقع مأساوي يصرخ بعكس ذلك.


المطلوب؟!


أي إصلاح اقتصادي حقيقي يبدأ بمحاربة الفساد والاحتكار، وتنظيم السوق وضبطها رقابياً وتقديم نتائج ملموسة بانخفاض الأسعار لا بالحديث عن عدد المخالفات والضبوط، مع دمج اقتصاد الظل بالاقتصاد الرسمي ودعم الإنتاج المحلي وقطاعاته.
فغياب الرقابة، وعدم وجود سياسات حماية اجتماعية وزيادة الاختلال بالتوازن بين الدخل والإنفاق، تعني إعادة توزيع الخسائر على كاهل المواطن المفقر أصلاً، وهذا يعمق الركود ويفكك النسيج الاجتماعي ما لم تُتخذ إجراءات فورية لإعادة بناء آليات الدعم الفعالة، وإلا فإن أي حديث رسمي عن تحسين مستوى المعيشة يبقى مجرد شعار وبهرجة كلامية خُلبية لا تغني ولا تسمن من جوع!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1257