مشاريع لقمة العيش في الريف... معركة من أجل البقاء
رهف ونوس رهف ونوس

مشاريع لقمة العيش في الريف... معركة من أجل البقاء

سقطت المؤونة الشعبية مع ورق أيلول، وتخلت الكثير من الأسر عنها، خاصة الأصناف التي تميز منطقة عن أخرى، وكيف لا؟!

فقد ضاق «القرش» واشتاقت له الجيوب، وتغيرت العادات والتقاليد وساءت الأحوال في ظل الوضع الاقتصادي الخانق، ليتحول الموروث الشعبي إلى مشاريع منزلية (ما يسمى اقتصاد منزلي أو شعبي) كمصدر دخل أساسي لا إضافي كالسابق، فتتقلص مؤونة البيت وتخرج من الحسابات لتأمين لقمة العيش اليومية فقط، لا أكثر!

مشاريع لقمة العيش

مع أول خيوط الفجر في إحدى قرى مصياف، يستيقظ الجميع في بيت ريفي بسيط استعداداً ليوم جديد من الكفاح، فعلى سطحه تتكاتف الأيادي لتنشر التين المجفف، الفليفلة، البامياء، الجوز وغيرها من المواسم التي يمكن تحويلها إلى منتجات غذائية ومؤونة للشتاء.

وهناك من يجمع الحطب لإشعال المواقد لبدء سلق الباذنجان لصناعة «المكدوس» أو غلي دبس الرمان، جميعها مشاريع بسيطة لا يمكن وصفها بالصغيرة أو متناهية الصغر، بل مشاريع لتأمين قوت اليوم إذا أمكن ذلك!

فمن نشاط موسمي وتراث عائلي يُخزن كمؤونة ويوزع على الأقارب والجيران أو يباع الفائض كدخل إضافي، ليتحول إلى مصدر رزق وحيد وأساسي في ظل غلاء المعيشة وقلة فرص العمل، فقد ضاقت بهم سبل العمل لتعود هذه المشاريع إلى الواجهة في مشهد تتوارى فيه الآمال خلف ستائر المعاناة من أجل البقاء.

معادلة خاسرة

القصص متشابهة هنا إلى حد الوجع!

فمن إنتاج دبس الرمان إلى التين المجفف (الهبول) الذي يشتهر به ريف مصياف، ومن صناعة «المكدوس» إلى المربيات على اختلاف أنواعها، مشاريع بمعادلة خاسرة: تكاليف مرتفعة ومردود بالكاد يغطي التكلفة، أو لا يغطيها أحياناً، مع ربح بسيط إن وجد، أي جهد جسدي شاق ودخل لا يوازي هذا التعب.

وهذا ما أكده «أحمد كنعان» اسم مستعار، الذي يعمل بمفرده في مشروعه الخاص بعد خسارة وظيفته، متحدثاً عن بعض المنتجات وتكاليفها:

تحضير كيلو من التين المجفف (الهبول)، يحتاج 4 كيلو تين أخضر وسعر الكيلو 7000 ل.س من النوعية المتوسطة وقد يكون بسعر أعلى يصل إلى 20000 ل.س في الأسواق لكنني أشتريه من الفلاح مباشرة، وأحضره على الحطب لاختصار التكلفة، مع تغطيته بجوز الهند أو السمسم أو نخالة القمح مع تكلفة مستلزمات التغليف، لأبيعه بسعر 45 ألف ل.س، وربحي لا يتجاوز 5000 ل.س، وأحياناً لا أرفع أسعاري رغم ارتفاع التكلفة كي لا أخسر الزبائن.

كذلك الحال بالنسبة للمربيات، فأبيع مربى الباذنجان (مطربان سعة كيلو) بـ 15ألف ل.س، فيحتاج كل كيلو منه بسعر4000 إلى كيلو سكر بسعر 7000 ل.س، أي ربح زهيد مقابل تعب وجهد لوقت طويل، مشاريع لا تسد الرمق لكن ما باليد حيلة فهذا سبيلنا الوحيد كي لا نموت جوعاً!

لا يختلف الحال كثيراً عن السيدة «إيمان معروف» التي قالت:

أنا أصنع «المكدوس» وأبيعه جاهزاً أو بشكل جزئي حسب الطلب، فكيلو الفليفلة المجففة الجاهزة يسعر 55 ألف ل.س، علماً أنه يحتاج 10 كغ فليفلة قبل الطحن، والمطربان الجاهز بحشوة عادية مغموز بزيت الزيتون 75 ألف ل.س، الربح لا يتجاوز 10000 ل.س، والنتيجة: تعب ليلاً ونهاراً مقابل فتات، لكن «بحصة بتسند جرة»! أما دبس الرمان، الليتر 70 ألف ل.س.

لا ينتهي الأمر عند التكلفة!

تواجه هذه المشاريع صعوبة في التسويق الذي يقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي وفي القرية نفسها مما يجعله محدوداً لاكتفاء الأهالي ذاتياً لتدني القدرة الشرائية وسط دخل شبه معدوم!

أما خارج القرية، فهناك صعوبة التنقل وبعد المسافات مع ارتفاع تكلفة النقل، وبالتالي أعباء مالية وتكلفة إضافية لا يمكن تحملها لا من البائع ولا المشتري.

وفي حال القرار بتحمل التكلفة طمعاً بتسويق المنتجات في المدينة، تقف المنافسة بشراسة وسط سوق شعبي مزدحم بمنتجات مشابهة، ويتحكم بهم وقت محدد للمغادرة مع قلة المواصلات للعودة، مما يجعلهم فريسة سهلة لجشع وطمع حيتان الأسواق استغلالاً لكل موسم ومناسبة لملء جيوبهم على حساب لقمة عيش المفقرين «المعترين» دون رحمة، والشراء منهم بسعر بخس بذريعة الطابع الشعبي للمنتجات وغياب إعلان المواصفات والتغليف الأنيق، رغم جودتها.

طاقة مهدورة، ودعم غائب

ما يزيد المشهد قسوة، غياب أي دعم رسمي أو مؤسسي، فلا قروض صغيرة ميّسرة تمول، ولا مبادرات لتبني العرض والترويج والتسويق بشكل منظم.

فالسياسات الداعمة للمشاريع المنزلية أو حتى متناهية الصغر لا تكون بالادعاءات، ولا بإقامة هيئات تنمية وبنوك مخصصة ككتل إسمنتية شكلية، بينما الواقع يراوح مكانه!

فالريف الغني بأرضه ومواسمه وطاقاته القادرة على قلب معادلة الاقتصاد المحلي ما زال خارج السياسات الاقتصادية الرسمية للاستثمار فيه كركيزة شعبية للتنمية المتوازنة، بحيث يكون الريف شريكاً فعلاً في النهوض والبناء وليس تابعاً وملحقاً ومهمشاً، وفرصة دائمة للاستغلال.

فإلى متى؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1245