الليرة السورية بين الإعلان المسبق والتضخم وحذف الصفرين
أثار إعلان مصرف سورية المركزي عن نيته طباعة عملة جديدة وحذف صفرين منها جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والشعبية. فبينما يقدَّم القرار كخطوة إصلاحية ترمز إلى بداية مرحلة جديدة من الاستقرار النقدي، يخشى كثيرون أن يكون مجرد إجراء شكلي لا يعالج جوهر الأزمة، بل قد يزيدها تعقيداً.
لماذا حذف الأصفار؟
إزالة الأصفار ممارسة شائعة في بلدان شهدت تضخماً مفرطاً مثل البرازيل، تركيا، وزيمبابوي. الهدف منها عادة:
- تسهيل التعاملات اليومية والفواتير.
- تحسين صورة العملة محلياً وخارجياً.
- إيصال رسالة سياسية بأن مرحلة التضخم المفرط قد انتهت.
لكن حذف الأصفار ليس سوى «إعادة ترقيم» للعملة، أي تغيير شكلي لا يؤثر على قوتها الشرائية ولا على توازنات الاقتصاد الحقيقي.
المخاطر التضخمية... الحلقة الأخطر
أخطر ما في التجربة السورية المحتملة هو ارتباطها بمخاطر تضخمية متصاعدة، وذلك للأسباب الآتية:
- الكتلة النقدية غير المنضبطة، فخلال سنوات الحرب، لجأت الحكومات المتعاقبة إلى التمويل بالعجز عبر طباعة المزيد من العملة دون غطاء إنتاجي أو احتياطي أجنبي، وحذف الأصفار لا يحدّ من هذه الممارسة، بل قد يشجع السلطات على مزيد من الطباعة، تحت وهم أن العملة «الجديدة» لم تُستهلك بعد.
- ضعف الإنتاج، فلا صناعة ولا زراعة قادرة على تغطية الطلب المحلي، وأي زيادة في المعروض النقدي ستنعكس مباشرة على الأسعار، لا على زيادة الإنتاج، وهذا يعني أن التضخم سيتواصل وربما يتسارع.
- غياب الحوامل الحقيقية لقيمة العملة، فلا احتياطيات من ذهب أو عملات أجنبية، ولا صادرات قادرة على جلب القطع الأجنبي، والليرة الجديدة ستبقى مجرد ورق، بلا سند اقتصادي فعلي.
- انقسام السوق السورية، ففي الشمال والشمال الغربي يعتمد الناس على الليرة التركية والدولار، وفي الشرق يُتداول الدولار بكثافة، وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من السوريين لن يتأثروا بالليرة الجديدة، بينما من يعتمد عليها سيكون الأكثر عرضة للتقلبات والتضخم.
- الأثر النفسي السلبي المحتمل، إذا لم يشعر المواطن بتحسن القوة الشرائية سريعاً، سيتحوّل «التفاؤل الأولي» إلى خيبة أمل وذعر مالي، وقد يسارع الناس إلى تحويل مدخراتهم من الليرة إلى الدولار أو الذهب، ما يزيد الضغط على سعر الصرف ويفجر موجة تضخم جديدة.
من التضخم إلى الفقر... الحلقة المفرغة
التضخم في سورية ليس مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هو محرك أساسي لزيادة معدلات الفقر للأسباب المختصرة الآتية:
- تآكل الأجور، فمعظم الرواتب في سورية ثابتة أو بالكاد تتحرك، ومع كل موجة تضخمية، تتقلص قيمتها الحقيقية، حتى بات دخل الموظف الحكومي لا يغطي بضعة أيام من نفقات المعيشة.
- انهيار المدخرات، فالليرة الجديدة إذا فقدت قيمتها سريعاً ستجعل من يحتفظون بالنقود أكبر الخاسرين، وهذا يزيد الشعور بعدم الأمان المالي ويقوّض أي ثقة بالقطاع المصرفي.
ارتفاع كلفة المعيشة
كل زيادة في الأسعار تعني مزيداً من العجز عن تأمين الغذاء والدواء والخدمات الأساسية.
فالتضخم المستمر يخلق ما يشبه «ضرائب خفية» على الفقراء، بينما القادرون على تحويل أموالهم إلى عملات أجنبية أو أصول صلبة يتفادون الخسائر.
توسيع الفجوة الطبقية
- من يملك الدولار أو الذهب يحمي نفسه من التضخم.
- من يعتمد على الليرة يصبح أكثر فقراً.
والنتيجة ازدياد الهوة الاجتماعية وتآكل الطبقة الوسطى وزيادة المفقرين.
تجارب دولية تحذيرية
- زيمبابوي: بعد حذف الأصفار عدة مرات، انتهى الأمر بالتخلي عن العملة الوطنية بالكامل واعتماد الدولار.
- الأرجنتين: إعادة تقييم العملة دون إصلاح اقتصادي أدت إلى عودة التضخم بوتيرة أعنف.
- تركيا: نجحت بعد حذف الأصفار فقط لأنه ترافق مع نمو اقتصادي وصادرات قوية واحتياطي نقدي كبير.
غياب الركائز الحقيقية للقيمة
العملة ليست مجرد ورق ملوَّن، بل انعكاس لاقتصاد منتج ومستقر. وفي سورية اليوم، حيث تغيب الركائز الحقيقية للقيمة من إنتاج وصادرات واحتياطيات واستقرار سياسي، فإن حذف الأصفار قد يكون خطوة شكلية تُسَوَّق كإصلاح، لكنها عملياً قد تتحول إلى وقود جديد للتضخم وزيادة الفقر.
إن لم يترافق الإصدار الجديد مع إصلاح اقتصادي جذري، واستقرار سياسي وأمني، وتوفير حوامل إنتاجية حقيقية، فستكون «الليرة الجديدة» مجرد عنوان آخر لانهيار أعمق، يدفع ثمنه المواطن العادي بمزيد من التآكل في قدرته الشرائية، ومزيد من الغرق في دائرة الفقر.
المخاطر الأمنية والنقدية للطابع العلني للإعلان
عادة ما تصاحب عمليات طباعة أو استبدال العملة طابعاً من السرية الشديدة، وذلك لعدة أسباب، أبرزها:
- استبعاد النقود المهربة أو المشبوهة المصدر من التداول.
- منع المضاربة أو التلاعب بسعر الصرف قبل الإصدار الرسمي.
- الحفاظ على مصداقية العملية أمام المواطنين والأسواق.
في هذا السياق، فإن الإعلان الرسمي المسبق عن استبدال وطباعة العملة الجديدة على لسان حاكم مصرف سورية المركزي قبل عدة أشهر من موعد الإصدار المتوقع مع نهاية العام، قد يشكّل إشارة غير مباشرة لمهربي العملة المشبوهة للتصرف بها قبل الإصدار الرسمي، من خلال:
- ضخ هذه الأموال في السوق المحلي، مما يزيد العرض النقدي فجأة.
- محاولة شرعنة أو تبييض الأموال من خلال التحويلات والمعاملات اليومية.
النتيجة المتوقعة هي تأثير سلبي مباشر على قيمة العملة قبل أن تدخل العملة الجديدة التداول، ما قد يفاقم من الضغوط التضخمية ويقلّص أية مكاسب شكلية كان الهدف منها تحسين الصورة النفسية لليرة الجديدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1240