ذاكرة الآلام الشبحية لا تكفيها جلسات العلاج النفسي
دعاء دادو دعاء دادو

ذاكرة الآلام الشبحية لا تكفيها جلسات العلاج النفسي

في خضم استمرار وتعمق الأزمات والمعاناة التي عاشها ويعيشها السوريون، يبدو أننا أصبحنا نعيش في عرض كوميدي مظلم.

فتحت عنوان: «1 إلى 3 ملايين سوري بحاجة إلى العلاج النفسي... الصحة تعمل على حوكمة الصحة النفسية»، نشرته «الوطن أون لاين»، جاء في مضمونه على لسان أحد الأطباء النفسيين المشاركين: «أن بناء الوطن يحتاج إلى مواطن صحيح نفسياً ليبدع وينتج، مشيراً إلى أنه لدينا مرضى نفسيون خلال الفترة الحالية يصل عددهم من 1 إلى 3 ملايين مريض وفق الإحصائيات المعتمدة عالمياً، وبالتالي رسم سياسات الصحة النفسية من خلال تقديم البرنامج ووضع آلية الحوكمة والتدريب النفسي».
فعلياً جميع السوريين وبلا استثناء، كباراً أو صغاراً، ذكوراً أو إناثاً، ربما بحاجة إلى «العلاج النفسي»، مع جلسات الحديث المفتوح والمطول عن الذكريات المؤلمة والمريرة التي تروى من قبلهم، مع غصات قلبية على «كرسيه».
فبالرجوع بالذاكرة إلى 14 عاماً مضت فقط نتساءل:
كم مواطناً سورياً عاش تجربة النزوح أو اللجوء الداخلي والخارجي ومخاطرها وآلامها؟
كم مواطناً سورياً رأى بأم عينيه موت الأب أو الأخ، أو فقد عائلته كاملة في اللحظة نفسها؟
وماذا عن الذين فقدوا ذويهم ولا يعلمون ما هو مصيرهم حتى هذه اللحظة؟
فهناك قائمة طويلة لا تنتهي من المآسي؛ الحروب، الموت، التهجير، القذائف، وكل الذكريات التي تختبئ في زوايا الذاكرة كالأشباح!
وبعيداً عن الموت واللجوء والنزوح، كم عدد أرباب الأسر الذين كانوا ومازالوا عاجزين عن تأمين لقمة العيش لأسرهم؟
فإن حالف الحظ أحدهم ووجد عملاً فالأجور متدنية كثيراً بالنسبة لأسعار الخبز واللحوم والخضار والفواكه، وكل أصناف الطعام، حتى باتت موائد السوريين معدومة اللحوم بجميع أشكاله، فقيرة بالأصناف، فجميع موائد الغالبية العظمى من السوريين «تمشاية حال»، أما بالنسبة للفواكه فكانت مثل اللحوم، من المنسيات، حتى بات أطفالهم يشتهون تذوق الفواكه الجميلة التي يرونها على الهواتف المحمولة!
ولم تقف معاناة السوري عند هذا الحد فقط، فنمط الحياة اليومي يضيف طبقة إضافية من التهتك والتهشيم النفسي إليه!
فانقطاع الكهرباء بساعاته الطويلة وفواتيره الكبيرة، والتجول في الشوارع المعتمة ليلاً كأنك في غابة أشباح حقيقية يزيد الطين بلة، ثم تسعير المحروقات وأزمة المواصلات واستغلال السائقين و...!
فكيف لأحدهم أن يستقر نفسياً في ظروف كهذه عاشها لأكثر من 14 عاماً؟
وهل يعقل أن هذه المآسي كلها أثرت فقط على 3 ملايين سوري، أو كما تم التصريح عنه بنسبة 10% من السوريين؟
إن نسبة 10% يا سادة هم الذين لم يتأثروا بكل تلك الظروف المارّة خلال 14 عاماً بالمناسبة، من كبار التجار والفاسدين والمستغلين للأزمات ومفتعليها والمتعاونين مع نظام السلطة الساقطة، بل هم من كانوا متسببين بالإضرار النفسي والجسدي والمعيشي لنسبة 90% من السوريين!
وبعيداً عن الخوض في دقة النسب التي تحدث عنها الطبيب المختص أعلاه، ربما من السهل على البعض الذهاب إلى معالج نفسي، ولكن لماذا لا يتم أولاً معالجة الأسباب؟
وهل يمكننا علاج كل الأوجاع النفسية، بينما نستمر في السير في دوامة المعاناة التي تسببت في كل الأضرار النفسية لـ 90% من السوريين؟
فالسوري اليوم بحاجة بداية إلى خطة علاجية متكاملة تقضي على جذور مشكلته الأساسية المزمنة المتمثلة بمتطلبات حياته المعيشية والخدمية، كي يسير قدماً نحو التعافي من استمرار أشباح ذاكرته المكتظة بالآلام التي تراكمت خلال 14 عاماً بالحد الأدنى!
فتوفير حياة كريمة وآمنة للسوري، مع ضمان ثقته باستدامتها، هي المقدمة الصحيحة التي تفسح المجال أمامه للبدء بتعافيه من أزماته النفسية، وكل ما عدا ذلك وهم لن ينتج عنه إلا المزيد من الآفات والأضرار النفسية، مع كل آثارها وتداعياتها السلبية على المستويات كافة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية!
على ذلك ربما يجدر بوزارة الصحة في حكومة تسيير الأعمال، وعلى ضوء حديثها عن حوكمة الصحة النفسية واهتمامها بها، أن تعمل مع الحكومة مجتمعة على توفير حياة كريمة وآمنة للسوريين كي تتمكن فعلاً من إنجاز ما هو مطلوب منها بمجال الصحة العامة، بما في ذلك الصحة النفسية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1213