حمّى التصدير المدعوم.. مزيد من التشوه على حساب المنتجين والمستهلكين والخزينة!
أعلنت الحكومة عبر صفحتها بتاريخ 26/4/2023 ما يلي: «أطلقت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ممثلة بهيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات برنامج دعم شحن المنتجات الزراعية والصناعية سورية المنشأ المصدّرة إلى روسيا بطريقة الشحن البحري».
الإعلان والخبر أعلاه يبدو إيجابياً للوهلة الاولى، فالتصدير يعتبر من الموارد الأساسية للقطع الأجنبي، ومن الطبيعي أن يتم السعي لزيادة هذه الموارد من خلال حل مشكلاته وصعوباته، وخاصة على مستوى تقليص فاتورته، لتخفيض الكلف على المنتجين والمصدرين، وللحفاظ على أسواق التصدير، وفتح أسواق تصديرية جديدة، مع الدعم المطلوب لإنجاز هذه المهمة!
على ذلك، ومن باب الإيجابية المفترضة في الخبر أعلاه، فإن برنامج دعم الصادرات يجب أن يترافق مع دعم الإنتاج والتصنيع وتنويعه، وخاصة الموجه للتصدير، وتحديداً للسلع ذات التنافسية النسبية والمطلقة، بما يزيد من معدلات النمو، وبما يؤدي إلى تخفيض فاتورة الاستيراد وإيجاد توازن في الميزان التجاري، أو تخفيض العجز فيه ما أمكن ذلك، وعلى ألّا يكون ذلك على حساب حاجات الاستهلاك المحلي!
فهل الأمر يسير على هذا النحو وفقاً للسياسات المطبقة تجاه قطاع الإنتاج، والسياسات المعمول بها بما يخص دعم الصادرات وبرامجه التنفيذية؟!
برامج الدعم المشوهة والمُجيرة!
بحسب الإعلان الحكومي أعلاه: «يأتي إطلاق البرنامج بناء على موافقة رئيس مجلس الوزراء على توصية اللجنة الاقتصادية، وحرصاً من وزارة الاقتصاد على تسويق الفائض من المنتجات السورية ورفد الخزينة بالقطع الأجنبي، وسعياً منها إلى فتح أسواق جديدة بهدف زيادة الصادرات، حيث يهدف البرنامج إلى دعم شحن كل المنتجات الزراعية والصناعية السورية المصدرة إلى روسيا بنسبة 30% بالليرات السورية من قيمة أجور الشحن التي بلغت 6000 دولار من أجور الشحن للحاوية أو السيارة الواحدة، حسب معدل التحويل المدون ضمن البيان الجمركي للبضاعة المصدرة، وذلك لمدة ستة أشهر خلال الفترة من الـ 1 من نيسان ولغاية الـ 3 من أيلول2023. وسيتم وضع الآلية لتنفيذ البرنامج بالتنسيق مع الجهات المعنية ذات العلاقة وتعميمها على كافة الجهات المعنية، كما سيتم التحضير بالتنسيق مع المؤسسة العامة للمعارض والأسواق الدولية وجميع الجهات المعنية للمشاركة السورية في معرض (فود موسكو) الذي سيقام خلال شهر أيلول من العام الجاري».
نظرة أولية لمضمون البرنامج أعلاه تبين وكأن نتائجه وغايته محصورة بالدعم المتمثل بنسبة 30% من قيمة أجور الشحن لمصلحة المصدرين والتي تعتبر مكلفة، وبالتالي فإن تحمل جزء من تكاليفها من قبل الحكومة إيجابي ويشجع على عمليات التصدير!
لكن بالعمق يتضح التشوه في السياسات الحكومية، ولمصلحة من يتم تجيير هذا التشوه؟!
فسياسات دعم الصادرات المطبقة ليست مستجدة وهي تسير على قدم وساق، ويتم وضع برامج مخصصة لها تباعاً، لكن بشكل مشوه، سواء بما يتعلق بالإنتاج والتصنيع الموجه للتصدير، أو على مستوى تخفيض فاتورة الاستيراد، والأهم بتأثيرها السلبي على حاجات الاستهلاك المحلي، وبالتالي على أسعار السلع والمواد في الأسواق المحلية!
فما يجري عملياً أن سياسات دعم الصادرات تسير بالتوازي مع سياسات تخفيض الدعم على الإنتاج (الزراعي والصناعي) الساعية نحو إضعافه وتقويضه (عام أو خاص)، ومن الطبيعي ألّا يكون هناك أي توجه بما يخص دعم الإنتاج والتصنيع الموجه للتصدير، وهي لا تأخذ بعين الاعتبار حاجة الاستهلاك المحلي من السلع والمواد المصدرة غالباً، والأسوأ أن فاتورة الاستيراد بتزايد، برغم كل برامج إحلال المستوردات الخلبية المعلن عنها، ما يعني مزيداً من العجز في الميزان التجاري!
وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، يعتبر في أحد أوجهها ميزة إضافية يستفيد منها المصدرون عادة، وعندما يكون هذا الانخفاض رسمياً ومستمراً فإن استفادة المصدرين تصبح أكبر، وبالتالي فإن السياسات النقدية المتبعة تكرس انحيازها لمصلحة أصحاب الأرباح مستكملة دورها مع بقية السياسات بهذا الإطار!
فجملة السياسات الليبرالية المطبقة، والآليات التنفيذية لها، تضمن مصالح كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير (مستوردين ومصدرين)، وبما يحقق المزيد من الأرباح لجيوبهم على شكل دعم مباشر وغير مباشر، على حساب الإنتاج وعلى حساب مصلحة المستهلكين والاقتصاد الوطني!
على حساب المنتجين والمستهلكين والخزينة!
وبالعودة إلى برنامج الدعم أعلاه، وتأكيداً لما سبق، فإن الترجمة العملية له ولنتائجه يمكن تلخيصها بالتالي:
فتح باب التصدير على مصراعيه، ولكافة المنتجات الزراعية والصناعية سورية المنشأ، بما في ذلك ربما السلع الأساسية المستوردة بالقطع الأجنبي، فالسكر المغلف محلياً يحصل على شهادة منشأ، وكذلك الرز والشاي والبن وغيرها من المواد والسلع المستوردة الأخرى!
المُصدر سيستفيد بمبلغ 1800 دولار كدعم نقدي مباشر عن كل حاوية أو شاحنة، وبالليرة السورية فإن هذا المبلغ يتجاوز 13 مليون ليرة بحسب سعر الصرف الرسمي حالياً!
المُصدّر سيستفيد كذلك من الضغط على المنتجين، وخاصة المزارعين، لتحقيق أرباح إضافية عبر الأسعار التي ستُفرض على منتجاتهم ومحاصيلهم كالعادة!
الدعم التصديري سيستمر لمدة 6 أشهر متواصلة، ولمروحة واسعة ومفتوحة من السلع والمواد، على حساب حاجات الاستهلاك!
فعبارة «تسويق الفائض من المنتجات السورية» تعتبر فضفاضة، ولا تراعي حاجات الاستهلاك المحلي منها عند التنفيذ غالباً، والأمثلة التصديرية السابقة خير دليل على ذلك، وبالتالي من غير المستغرب تجريف الأسواق من كل ما هو قابل للتصدير من السلع، المنتجة محلياً أو المستوردة!
المستهلك المحلي سيتحمل سلبيات قلة العرض وندرة المواد على شكل زيادة في الأسعار عليها، فآليات العرض والطلب متحكم بها من قبل أصحاب الأرباح ولمصلحتهم!
قلة العرض والندرة وارتفاع السعر ستكون مبرراً لفتح باب استيراد لبعض السلع والمواد لاحقاً، وبما يضمن مصالح أصحاب الأرباح من المستوردين أيضاً، وهو أمر سبق أن تكرر لمرات عديدة وبفجاجة!
وبالتالي فإن فاتورة الاستيراد ستزداد بدلاً من أن تنخفض، أي سيزداد العجز في الميزان التجاري!
البوابة المفتوحة أعلاه باسم دعم الصادرات قد تفتح معها بوابات النهب والفساد للحصول على هذا الدعم وزيادته، من خلال زيادة عدد الحاويات اسمياً، أو التصدير الوهمي.. وغيرها من الطرق الملتوية!
والنتيجة أن التشجيع والدعم الرسمي أعلاه سيصب في جيوب كبار أصحاب الأرباح (مصدرين ومستوردين) فقط لا غير، على حساب المنتجين والمستهلكين والخزينة!
أرقام وبيانات شبه رسمية
قال رئيس لجنة الاستيراد والتصدير في اتحاد غرف التجارة السورية فهد درويش بتصريح لصحيفة الوطن بتاريخ 17/4/2023 أن: «قيمة الصادرات السورية خلال الربع الأول من العام الحالي بلغت ما يقرب من ربع مليار دولار أمريكي. وذكر أن المادة الأكثر تصديراً التي احتلت المركز الأول خلال الفترة المشار إليها، كانت الثروات الطبيعية التي تقوم المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية بتصديرها، وجاءت الخضروات في المركز الثاني من حيث حجم القيمة التصديرية، ومن ثم حلت الفاكهة في المركز الثالث. وبين درويش أن المنتجات الغذائية المشهود لها عالمياً بجودتها وبأنواعها المختلفة (أجبان وألبان، ومنتجات الكونسروة المختلفة وغيرها الكثير)، فقد حلت في المركز الرابع، ومن ثم حلت البهارات والتوابل مثل الكزبرة واليانسون والكمون وغيرها من البهارات في المركز الخامس».
من الواضح، وبغض النظر عن تصدير الثروات الطبيعية كخامات بما لها وما عليها من ملاحظات، فإن الخضار والفواكه استحوذت على نسبة كبيرة من حجم القيمة التصديرية على حساب الاحتياجات المحلية منها وما نالها من ارتفاعات سعرية بسبب قلة العرض، وهو ما شهدناه في الأسواق كدليل على ما سبق أعلاه، فيما حلت الصناعات الغذائية، والتي تحمل قيمة مضافة (وبرغم تمتعها ببعض الميزات التنافسية) في المرتبة الرابعة، لتأتي أخيراً البهارات والتوابل غير المصنعة، أي بلا قيمة مضافة برغم ميزاتها التنافسية والتي تعتبر لبعضها مطلقة مثل بعض الأعشاب الطبية المحصورة بمنطقتنا!
فإذا كانت نتائج الربع الأول بهذا الشكل، فإلى أين ستؤول الأوضاع مع الدعم التصديري المستجد أعلاه خلال الربعين التاليين؟!
أرقام وبيانات البنك الدولي
بحسب بعض بيانات البنك الدولي الواردة على موقعه بما يخص سورية فإن:
إجمالي الناتج المحلي في عام 2011 كان 35,30 مليار دولار، ووصل في عام 2020 إلى 15,10 مليار دولار.
شكلت إيرادات الموارد النفطية نسبة 18,70% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2011، وقد تراجعت في عام 2019 إلى نسبة 2,60%!
شكلت صادرات السلع والخدمات نسبة 19,40% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2011، فيما تراجعت إلى نسبة 14,80% في عام 2020!
شكلت واردات السلع والخدمات نسبة 31,30% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2011، وقد ارتفعت حتى عام 2020 وأصبحت النسبة 33,60%!
الأرقام أعلاه تبين بداية حجم التراجع الكبير في إجمالي الناتج المحلي خلال عقد من الزمان، كما تبين حجم التشوه فيما بين الصادرات المتراجعة الواردات المتزايدة خلال نفس الفترة، وبالتالي واقع التشوه الكبير في الميزان التجاري، وفي جملة السياسات الاقتصادية المعمول بها منذ عقود!
فإذا كانت الحرب والأزمة أحد أسباب هذا التراجع (والتي تضاف إليها ذرائع العقوبات والحصار) التي يحلو للرسميين إعادتها وتكرارها، فإن استمراره وزيادته مع تشوهاته الكبيرة والعميقة تتحملها جملة السياسات الليبرالية المطبقة والمنحازة لمصلحة كبار أصحاب الأرباح على حساب الإنتاج والاقتصاد الوطني!
ألف باء الدعم الإيجابي المفترض!
من المفروغ منه أن مصلحة التاجر والمسوّق، بحال افتراض أولوية هذه المصلحة على غيرها، تفترض وجود سلع تحقق التالي:
تنافسية في النوع والجودة والمواصفة والسعر.
قابلة للنفاذ بسهولة إلى أسواق الاستهلاك (محلي- خارجي) لتلبي حاجاته.
تحقق الجدوى الاقتصادية والمرابح المضمونة منها.
أما تنمية ودعم الصادرات، وبحال توفر النية الجادة بما يحقق مصالح جميع أطراف المعادلة فيها (المنتج- المستهلك- التاجر- المُصدّر- الخزينة- الاقتصاد الوطني) دون استثناء، فيجب أن تتركز على التالي:
السلع التصديرية التي تحمل قيمة مضافة، وخاصة ذات الميزات التنافسية (النسبية والمطلقة) مما ينتج ويصنع محلياً (زراعي صناعي)، وبعد تأمين حاجات الاستهلاك المحلي منها.
وجود الحد الأدنى من المدخلات المستوردة في هذه السلع لتخفيض تكلفتها وزيادة تنافسيتها.
السعي الجدّي من أجل إحلال البدائل المحلية لبعض المدخلات المستوردة مستقبلاً.
العمل الدائم على تخفيض كلف إنتاجها (مدخلات ومستلزمات- تقانات ومكننة متطورة-سلاسل توريد وتوزيع..).
أخيراً ربما يؤخذ بعين الاعتبار تخفيض أجور شحنها ونقلها إلى مقاصد الاستهلاك في أسواق التصدير المستهدفة.
وبشكل عام فإن زيادة الإنتاج المحلي وتنوعه، مع الحفاظ على جودته وانخفاض تكاليفه وسعره بالنتيجة، يحقق النتائج التالية:
توطين تقانات الإنتاج (الزراعي- الصناعي) وتطويرها.
زيادة في تشغيل الأيدي العاملة المحلية، في الإنتاج المباشر وغير المباشر.
تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي من منتجاته وسلعه.
تخفيض الطلب على الواردات، ويوفر بعض القطع الأجنبي.
زيادة في حجم الصادرات، وتوسع في أسواق التصدير الإضافية، أي يزيد من حجم القطع الأجنبي.
يحقق نوعاً من التوازن في الميزان التجاري.
يدعم قيمة الليرة مقابل العملات الأجنبية، ويزيد قوتها الشرائية.
يحقق زيادة فعلية وحقيقية في معدلات النمو.
وكل ذلك يمثل مصلحة اقتصادية وطنية عامة بالنتيجة.
كل ما سبق، وعلى الرغم من عدم صعوبة تنفيذه بحال توفر النية الجادة والصادقة رسمياً، بعيد كل البعد عن الحكومة بسياساتها المشوهة والمنحازة لمصالح أصحاب الأرباح، بالضد وفي تضحية مباشرة وعلنية بالإنتاج وبمصالح المنتجين والمستهلكين، وبالضد من المصلحة الوطنية!
التضحية بالأمن الغذائي!
في ظل هذا النمط المشوه من التشجيع والدعم للمصدرين باسم الصادرات، مع فتح بواباتها على مصراعيها بذريعة الحصول على القطع الأجنبي!
ومع استمرار وتوسع وزيادة عمليات التهريب للكثير من المنتجات والسلع إلى دول الجوار، والتي تستفيد منها الشبكات العاملة لمصلحة أصحاب الأرباح أيضاً!
ومع تغول وتحكم وسيطرة كبار أصحاب الأرباح والنافذين على السوق وبضائعه، وعلى الواقع الاقتصادي عموماً، بغطاء السياسات الليبرالية، وبدعم ورعاية حكومية!
ومع استمرار انخفاض معدلات الإنتاج (الزراعي والصناعي) وتراجعها المطّرد عاماً بعد آخر، بسبب سياسات تخفيض الدعم الجائرة وغيرها من سياسات إضعاف وتقويض الإنتاج، مع النية المبيّتة لإنهائه، وما يترتب على ذلك من نتائج تتجاوز حدود المزيد من العاطلين عن العمل والمهمشين والمفقرين وزيادة الظواهر السلبية بأشواط!
فإن ذلك لن يؤدي إلى المزيد من التشوه والتضخم والارتفاعات السعرية والإفقار فقط، بل إلى انعدام القدرة على تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي من السلع المنتجة محلياً، وخاصة الغذائية، وصولاً إلى الجوع والتضحية بالأمن الغذائي!
والسؤال المطروح، الذي يتضمن الإجابة في متنه، بعد كل ذلك:
هل المطلوب الاستمرار في سياسة دعم الصادرات المشوهة وفقاً لما هو معمول به بحسب البرامج المتتابعة أعلاه، وبالتوازي مع السياسات الأكثر تشوهاً، أم توجيه هذا الدعم إلى الإنتاج الحقيقي، أي تغيير كل البنية المشوهة للسياسات المعمول بها، مع حواملها والمستفيدين منها؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1120