التعليم الجامعي لمن استطاع إليه سبيلاً
فارس المنصوري فارس المنصوري

التعليم الجامعي لمن استطاع إليه سبيلاً

مع التردي المتواصل للظروف المعيشية، تكرست عملية الفرز الطبقي الحادة في المجتمع، فقد ازداد الغنى وتمركز الثروة، مع قلّة في الأغنياء من أصحاب الأرباح الكبيرة، وبدأت الأزمة تلقي بظلالها على الغالبية العظمى للشعب السوري، وحتى على بعض الطبقات التي كانت تحتسب على أنها «ميسورة» سابقاً، فمع تردي الأوضاع الاقتصادية وتراجع القدرة الشرائية لليرة السورية، ازدادت تكاليف المعيشة بشكل عام، وانعكست في أحد جوانبها على قطاع التعليم، والراغبين في التعلّم.

فقد ازدادت تكاليف التعلّم ومستلزماته بشكل كبير، حتى أصبحت بشكل أو بآخر أبعد ما تكون عن المجانية بالنسبة للتعليم العام، فقد شملت سوء الأوضاع طلاب المرحلة الأساسية والثانوية وذويهم، بالإضافة إلى طلبة التعليم الجامعي، بشقيه العام والخاص، في فرز طبقي مجحف لا يعير المقدرة والإمكانية والتميز أي اهتمام!

تكاليف اضطرارية مرتفعة

مع تخفيض الدعم المتواصل، سواء بالسعر أو بتقنين الكميات المخصصة من المحروقات لوسائط النقل، باتت المواصلات السهلة والمتاحة أشبه بالحلم، ليس للجامعيين فقط بل ولعموم السوريين، بالإضافة إلى المشقة والتعب الناتجة عن ساعات الانتظار الطويلة لحين قدوم السرفيس أو الباص، وبالتالي أصبح على طلاب مرحلة التعليم الجامعي زيادة هائلة في التكاليف!
فبسبب سوء أوضاع المواصلات يضطر البعض إلى اللجوء إلى «التكسي سرفيس» مرتفع التكلفة، خصوصاً لمن يضطرون للذهاب إلى جامعاتهم بشكل شبه يومي.
ومع غياب مرجع علمي حديث وواضح يضطر معظم الجامعيين إلى اللجوء إلى المحاضرات المطبوعة عبر المكتبات، مما يشكل عبئاً كبير على الطالب وخصوصاً أنّ شراء المحاضرات قد يكلف تقريباً في كل فصل 250 ألف ليرة سورية، الرقم الذي يختلف من كلية إلى أخرى، بحسب عدد المواد، وبحسب ضخامة المقررات.
وما يزيد الطين بلّة هو حاجة بعض الكليات إلى حاسب متطور نوعاً ما لإكمال الدراسة وتنفيذ المشاريع من خلاله، الذي بلغت تكلفته حالياً ما يقارب أربعة ملايين ليرة السورية.

تكاليف نابذة

هذه التكاليف الاضطرارية هي جزء يسير من التكاليف التي يضطر إلى تكبدها طلاب مرحلة التعليم الجامعي العام، مثل الطعام، واللباس، غير الرسوم السنوية، وخاصة لأنظمة التعليم العام (الموازي والمفتوح والافتراضي)، التي أصبحت مرتفعة بشكل كبير.
فالفرز الطبقي أصبح جلياً في مرحلة التعليم الجامعي الحكومي حتى بين العام والموازي والمفتوح والافتراضي، ففي كل عام هناك من تقذفهم ظروفهم المعيشية الضاغطة بعيداً عن إمكانية استكمال تعليمهم من أجل العمل والإعالة، ولا علاقة بذلك لإمكاناتهم ومقدرتهم وتميزهم، بل لعجزهم المالي فقط!

طلاب الخاصة ليسوا أفضل حالاً!

يظن الكثير بأن طلاب الجامعات الخاصة-مع التحفظ طبعاً حيال خصخصة التعليم- هم أفضل حالاً ماديّاً من غيرهم، ومع أنّ هذا الكلام صحيح إلى حدٍّ ما، إلّا أن ارتفاع الأسعار لم يترك أحداً من شرّه!
فقد بلغت أسعار الساعات الدراسية في الجامعات الخاصة حدّاً عالياً جداً، حيث وبعد تحديد وزارة التعليم العالي للحدود العليا للساعات، فقد التزمت كلّ الجامعات الخاصة تقريباً به، متغاضين عن أنّ هذا الحد هو الأعلى، أي كان من الممكن فرض رسوم منخفضة أكثر منه حتى ولو بنسبة ضئيلة، إلّا أنّ معظمهم أخذوا بالرسم كما ورد وفق القرار الصادر عن وزارة التعليم العالي، وبذلك تم غض الطرف عملياً عن التباين النسبي بين الجامعات، من حيث الكوادر والتجهيزات والمستلزمات، وغيرها من الفروقات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار على مستوى الرسوم السنوية!
فقد بلغت كلفة سنة دراسية واحدة، وفق رسوم الساعات الجديدة -يلتزم الطالب برسم الساعة حسب سنة تسجيله إلى أن يتخرج- لكلية مثل طب الأسنان في إحدى الجامعات الخاصة، بفرض أنّ السنة هي وسطياً 36 ساعة، وبرسم 250 ألف للساعة الواحدة كما هو محدد بقرار الوزارة، 9 ملايين ليرة سورية، يضاف إلى ذلك رسوم تختلف من جامعة إلى أخرى، كرسم تسجيل الساعات ورسوم «الخدمات» ورسوم الامتحانات، وقيمة الكتب والمحاضرات والمطبوعات، وما إلى هنالك، ما قد يوصل كلفة دراسة سنة واحدة إلى ما يقارب عشرة ملايين ونصف مليون ليرة سورية.

يضاف إلى ذلك، ومع ارتفاع أسعار المحروقات، رسوم النقل، الأمر الذي أصبح يشكل في حالات عديدة للطلاب المسجلين في سنوات سابقة ضعف الرسوم الفصلية!
فقد بلغت رسوم النقل الخاصة الفصلية في العام الحالي ما يقارب المليون ليرة سورية أو أكثر، المبلغ الذي يشكل ضعف ما يدفعه طالب قد سجّل في الجامعة في عام 2019 مثلاً.

لنخبة النخبة فقط

إن أي طالب جامعي مستجد في الجامعات الخاصة سيتكلف سنوياً ما يعادل 12 مليون ليرة بالحد الأدنى، الأمر الذي لم يعد متاحاً إلا لأبناء نخبة النخبة من الأثرياء، القادرين على تحمل هذه التكاليف طول مدة دراسة أبنائهم، التي تصل إلى 6 سنوات في الكليات الطبية، أي ضمان توفر ما يعادل 80 مليون ليرة مخصصة لهذه الغاية بالحد الأدنى!
فالفرز الطبقي أصبح أكثر تعمقاً حتى في الجامعات الخاصة أيضاً، ما يعني أن إمكانية التعلم أصبحت حكراً على أبناء شريحة النخبة من الأثرياء، مع ما يليها طبعاً من تصدر لامتلاك فرص العمل المتاحة بمختلف مسمياتها ومستوياتها وأماكنها (الرسمية وغير الرسمية)، ناهيك عن فرص العمل في المشاريع الخاصة بهذه النخبة، أي مزيد من فرص تحكم وسيطرة هذه الشريحة على مقدرات البلاد والعباد!
ولعله من المفروغ منه بالتالي أن تكون الغالبية المفقرة، بل وحتى جزء من الشرائح الميسورة، بالضد من السياسات الطبقية الظالمة ومن تمثل مصالحهم، والتي أوصلتهم إلى هذا الحضيض، فالفرز الطبقي الجاري لمصلحة كبار الأثرياء يسحق كل إمكانية أمام الغالبية المفقرة، مع غيرها من الشرائح الاجتماعية التي دخلت مرحلة الانسحاق هي الأخرى، ليس على مستوى إمكانية استكمال التعلم فقط، بل على مستوى إمكانية التحكم بفرص الحياة نفسها، في توحش منقطع النظير تكرسه جملة السياسات الطبقية الظالمة المعمول بها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1090