من الفقر إلى الجوع
يترسخ الفقر في واقعنا ومعاشنا وتتوسع قاعدته يوماً بعد آخر، كما تتجذر معه آثاره وتداعياته السلبية الكارثية، فقد باتت الفجوة عميقة جداً بين متطلبات الحياة وضروراتها المادية والروحية وبين ممكنات تأمينها.
ولعل لغة الأرقام تعتبر واحدة من مؤشرات التأكيد على ذلك، بينما يبقى الواقع الحياتي المعاش هو الفيصل والحكم والدليل الأوضح على بؤس السياسات التي أوصلتنا لما نحن فيه، والتي تزايد تأثيرها وعمقها خلال سني الحرب والأزمة وبسببها أيضاً، وصولاً إلى مرحلة الجوع.
فقد ورد في تقرير للأمم المتحدة، مطلع العام الحالي، عن الاحتياجات الإنسانية في سورية 2019، أن 83% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأنَّ نسبة 33% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
مزيد من الأرقام والبيانات
في تقرير لمنظمة «اليونيسيف» تحت عنوان «الأزمة السورية: حقائق سريعة» الصادر في شهر آب 2019، ورد التالي عن الداخل السوري:
«عدد السكان الكلي: 18,4 مليون- المحتاجون من السكان: 11,7 مليون- المحتاجون من الأطفال: 5 ملايين- يعيش أربعة من بين خمسة أشخاص من السوريين تحت خط الفقر، مما يدفع بالأطفال إلى اتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياة، مثل التوجه إلى عمالة الأطفال وزواج الأطفال والتجنيد للقتال، وذلك لمساعدة أفراد عائلاتهم في سد الرمق- ارتفعت نسبة حالات سوء التغذية الحاد بين الحوامل أو المرضعات إلى أكثر من الضعفين في العام 2018- يعاني 6,5 ملايين شخص من انعدام الأمن الغذائي».
بحسب تقرير المكتب المركزي للإحصاء تحت عنوان «المسح الديمغرافي الاجتماعي المتكامل المتعدد الأغراض 2017 – 2018» الصادر مؤخراً، فإن: «نسبة الأسر الآمنة غذائياً بلغت 33%»، ما يعني أن نسبة 67% هم غير آمنين أو معرضين لانعدام الأمن الغذائي، أما معدلات البطالة حسب التقرير فقد تراوحت بين نسبة «9,6% وصولاً إلى 27,9%»، بحسب المحافظات المدروسة.
وبحسب آخر تقرير للمكتب المركزي للإحصاء المتضمن الأرقام القياسية عن عام 2018، ورد أن الأرقام القياسية لأسعار المستهلك عن عام 2018 باعتبار سنة الأساس 2010- ووزن الأساس 100، التالي: في عام 2017 لكافة السلع كان 782,8، بينما وصل إلى 790,1 في عام 2018، وبفارق تضخُّم بين العامين فقط وصل إلى 0,9، ولكم أن تتخيلوا حجم التضخُّم على كافة السلع الآن بعد فارق الأسعار الكبير بين نهاية العام الماضي 2018 وحتى الآن من طرف، وبين سنة الأساس 2010 وحتى الآن من طرف آخر.
انحدار مستمر
الأرقام والبيانات أعلاه تعتبر مؤشرات عن الانحدار غير المسبوق، المتتابع والمستمر، على مستوى المعيشة، مع آثارها ونتائجها الكارثية المترتبة عليها.
فمؤشرات الفقر تعتمد أساساً على مدى توفر بعض الخدمات الأساسية، مثل «التغذية والصحة والتعليم و..»، بينما يتركز الحديث- عن خط الفقر عادة- على مستوى الدخل الذي يحتاجه الفرد كي يتمكن من توفير المعيشة الملائمة، أما خط الفقر المدقع فهو مستوى الفقر المتمثل بالعجز عن توفير الاحتياجات الأولية المتمثلة بـ«الغذاء- اللباس- الرعاية الصحية- السكن..»، مع عدم إغفال العوامل الإضافية المتمثلة بـ«الكهرباء- المياه- الصرف الصحي- الطرق- المواصلات- النقل...».
الأس بالسياسات
فإذا آمنا بالفوارق بين مستويات الفقر بين دولة وأخرى، باعتبار أن الفقر ظاهرة ملازمة للمجتمعات الطبقية ولأوجه الاستغلال وأشكاله المختلفة والمتباينة، حيث تختلف الخدمات الأساسية بين مجتمع وآخر، وبين دولة وأخرى، كما تختلف الاحتياجات الأولية مع العوامل الإضافية أيضاً، فإن ما وصلنا إليه تجاوز كل عتبات الفقر المدقع انحداراً، ليس على الأساسيات، بل على مستوى الاحتياجات الأولية، وأهمها الغذاء، وصولاً إلى حافة الجوع والعوز المعمم، بدليل المؤشرات الرقمية أعلاه، والواقع الحياتي المعاش.
فإذا كانت العوامل المساعدة على استمرار ظاهرة الفقر من الممكن السعي إلى التخفيف من آثارها، مثل الاهتمام بالخدمات والمرافق العامة وغيرها، فإن الجوهر والأس يجب أن يتركز على الأسباب الحقيقية للظاهرة من أجل تغييرها، والتي تتمثل من الناحية العملية بالسياسات الليبرالية المُفقرة المتبعة منذ عقود، ذات الجوهر الطبقي المحابي لأصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور على طول الخط، خاصة وأن ذلك يرتبط مباشرة بالآثار والنتائج الكارثية المترتبة على تفّشيها، والتي لا تقف عند حدود الجوع فقط، فكل الآفات الاجتماعية السلبية تعتبر مرتبطة ارتباطاً عضوياً بظاهرة الفقر، بالرغم من كونها ليست سببها.
ظواهر سلبية وشبكات
على هامش ظاهرة الفقر وسياسات الإفقار والتهميش المتبعة وبعمقها، ربما ليس من المستغرب الحديث عن تفشّي واتساع ظواهر الرشوة والمخدرات والدَّعارة والسرقة والقتل و.. وكافة مظاهر وظواهر الانحراف المجتمعي، مروراً بالانحراف عن القيم والسلوك والانضباط بشكل عام، وصولاً لتفسيخ التماسك والترابط الاجتماعي بالنتيجة والمآل، وكذلك الحديث عن الشبكات العاملة والمستفيدة من هذه الظواهر وترابطها داخلاً وخارجاً أيضاً، والشواهد على كل ذلك أصبحت كثيرة، منها المضبوط ومنها الملموس بنتائجه الكارثية، كما ليس من المستغرب أن نربط كل ذلك بالسياسات المُتَّبعة والمعمول بها والمستفيدين منها، وهذا من دون شك ليس تجنياً، كما أن الحديث عنه وعن شواهده ليس بجديد على الإطلاق.
صناعة الجوع
لعل الحديث عن صناعة الفقر أصبح متعارفاً عليه، ليس باعتبارها صناعة مستوردة ومشوهة مع كل آفات الليبرالية المشوهة المستوردة، بل بدليل الاستمرار بنفس السياسات المفقرة دون تغيير، برغم كل نتائجها وتداعياتها الملموسة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي و...
وقد انتقلنا الآن على ما يبدو إلى مرحلة صناعة الجوع، المشوَّهة والمستوردة كذلك الأمر، بدليل المزيد من تكريس الفرز الطبقي، والمزيد من توسيع وتعميق الفقر والعوز، فقد تزايدت أعداد الفقراء والمعوزين وغير الآمنين غذائياً، بمقابل تزايد ثروات حيتان المال والفساد والنفوذ والنهب، مع المزيد من الانحدار على هذا المستوى دون قاع واضح ندركه.
ولعلَّ ما جرى خلال الأشهر الفائتة، والأسابيع القريبة الماضية وحتى اليوم، بذريعة سعر الصرف والحصار وغيرها من الذرائع الكثيرة الأخرى، أكبر دليل على أن القائمين على هذه السياسات والمستفيدين منها لا يعنيهم من أمر المواطنين المفقرين والجائعين أي شيء، بل والوطن والمصلحة الوطنية كذلك الأمر، وجُلّ ما يعملون من أجله هو المزيد من النهب والاستغلال المعمم، بل إن الزيادة الأخيرة على الرواتب والأجور تم سحقها نهباً قبل أن تصل للجيوب، فقد تضاعفت أسعار السلع والخدمات بما يتجاوز كل حدود فارق سعر الصرف وفارق مبلغ زيادة الأجور بأضعاف مضاعفة، ولم يعد السؤال أين وصلت حدود الفقر والجوع والعوز- ذا جدوى بعد كل ذلك، فالواقع المعاش والمشاهد اليومية أصبحت تكفي للإجابة عن مثل هذه الأمثلة، بلا أيَّة أرقام أو إحصائيات وبيانات!.
الجريمة والعقاب
ربما لا أحد يدري إلى أي درك من الممكن أن نصل إليه في ظل الاستمرار بهذه السياسات، مع نتائجها وانعكاساتها السلبية، دون تغيير، برغم كل التحذيرات وكل ما مررنا به من كوارث حتى الآن، لكن مما لا شك فيه أن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه.
فإذا كانت صناعة الفقر يمكن اعتبارها جريمة من خلال الكثير من المقاييس، فإن صناعة الجوع يمكن اعتبارها جريمة أكبر وأعنف، ولا جريمة بلا عقاب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 942