تجارة الرصيف وإجراءات المحافظة
أصبحت تجارة الرصيف باباً ومصدراً للرزق، ليس للبسطات وحدها باعتبارها مصدر الرزق الوحيد للكثير من المواطنين المفقرين والمهمشين، الذين لم تسمح لهم ظروف المعيشة القاسية من الحصول على فرصة عمل لائقة، أو امتلاك محلات تجارية كالقلة من المحظيين، بل للكثير من أوجه وأشكال الاستثمار والربح أيضاً من قبل فعاليات تجارية مختلفة، أو غيرها.
فقد استُثمرت هذه التجارة لتصبح اليوم ظاهرة مزعجة للكثير من سكان مدينة دمشق، حيث باتت تشوه الأرصفة وتضيق على المارّة، على مرأى أوّلي الأمر من المسؤولين، وغض الطرف منهم، بل وقوننة ذلك في بعض الأحيان، الأمر الذي قادنا لأسئلة كثيرة عن سبب تفاقم حجم هذه الظاهرة ومن الذي يقف وراءها، ومن يساعدها على الانتشار الكبير، وما دور الجهات الرقابية للحد من المخاطر الصحية والأمنية لهذه الظاهرة؟.
إشغالات بسمنة وأخرى بزيت
على الرغم من تكرار طرح موضوع إشغالات الأرصفة وبسطات البالة في جلسات مجلس المحافظة مراراً وتكراراً لمنع انتشار البسطات والإشغالات العشوائية في دمشق، إلا أن المحافظة لم تفلح في الحد منها، ولم تستطع القضاء على هذه الظاهرة لتعود إلى الانتشار أكثر فأكثر بعد يومين فقط من الحديث عن إزالتها في بعض المناطق... وبقيَ الحال كما هو عليه «دق المي وهي مي»، ما مناخد من المحافظة غير الحكي... أما الفعل فعليه السلام!!.
أما الجانب الآخر من ظاهرة إشغال الأرصفة، والذي لا يمكن غضّ الطرف عنه، فهو مرتبط بالمحافظة ذاتها، فبعض الإشغالات تكون من قبل أصحاب المحال التجارية والمطاعم أيضاً التي أصبحت تضم مساحة كبيرة من الأرصفة إليها، ولكن المحافظة تعمل على «تنظيم» هذه الحالة، حسب ما تمّ التصريح عنه عبر وسائل الإعلام، «وفقاً للأنظمة عبر السماح لهم بإشغال ما بين 30 و50% من الرصيف دون الإساءة للمظهر العام، مع اعتماد نموذج وحالة جمالية معينة وذلك لقاء رسم مالي...».
الملخص من هذا التصريح، وما سبقه وتبعه من إجراءات، هو أن المحافظة ما زالت تريد كسب المال بشتى الطرق، وهدفها الأساس ليس إزالة العرقلة والإشغالات المخالفة من الأرصفة كما تقول، مع عدم تغييب إشغالات الأرصفة من قبل السيارات المركونة عليها، وهذه نسبتها أحياناً 100% من مساحة الرصيف، ناهيك عن أسواق السيارات داخل الأحياء، وما تأخذه من حيّز مكاني فيها، على حساب المارّة وسكان هذه الأحياء.
وعود بالضبط والتنظيم
صرّح عضو المكتب التنفيذي لقطاع الخدمات: «أن المحافظة تعمل على تأمين مناطق بديلة للبسطات ضمن مساحات منظمة ومدروسة وبرسم مالي يُستوفى من المستفيدين».
وقد أعلنت محافظة دمشق أنه سيتم افتتاح أول سوق شعبي للبسطات قريباً بعد اختيار تصميمٍ له، حيث صرَّح عضو مكتب التنفيذي لقطاع الصحة والشؤون الاجتماعية والدفاع المدني لوكالة سانا، بتاريخ 30/10/2019: «أنه تم وضع تصاميم أربع أسواق، وسيتم اختيار واحداً منها والبدء في تنفيذه قريباً، وثم يتم الانتقال بالتنفيذ للأسواق المحددة الأخرى»، لافتاً: «أن هذه الأسواق ستكون مساحاتها محددة ومنظمة، وأنه تم تحديد مواقعها بناءً على حيويتها من حيث كثافة حركة المواطنين فيها».
مواقع الأسواق التي تم تحديدها من قبل محافظة دمشق: اثنان منها في منطقة الزاهرة. والموقع الثالث في القنوات. في حين يكون الموقع الرابع في منطقة ركن الدين جانب فوج إطفاء ابن النفيس. والموقع الخامس عند مدخل حيّ نهر عيشة. بينما السادس سيكون في منطقة القدم على أوتوستراد درعا الجديد. والسابع والثامن في منطقة الميدان- الزاهرة القديمة. وأخيراً، التاسع يقع في ساروجة.
«مطرح ما ترزق- إلزق»
لا شكَّ أن عملية تنظيم البسطات أمر إيجابي، ومطلوب، وهو من مسؤولية المحافظة أولاً وآخراً، فبعض بائعي البسطات (المدعومين) أصبحوا يمتلكون الأرصفة وحولوها إلى مشاريع تجارية وأخذت بالانتشار والتوسع الكثير، لكن هل وقفت تجارة الرصيف عند هؤلاء فقط؟.
فغالبية أصحاب البسطات الصغيرة هم من الفقراء المُعدمين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، الذين يقفون على أقدامهم تحت أشعة الشمس الحادة وتحت الأمطار ولسعات البرد القارصة كي يستطيعوا أن يعيشوا دون الحاجة إلى التسول والسرقة.. إلخ، عبر بسطاتهم البسيطة التي ليس لها طابع الاستمرارية، باعتبار القائمين عليها اضطروا للعمل بها من باب سد رمق العيش ليس إلا، بانتظار فرصة العمل المستمرة، أو مصدر الدخل الكافي الذي يقيهم شرور العوز، وهم على ذلك لا يتقيدون بمكان محدد، بل يعملون على مبدأ «مطرح ما ترزق- إلزق»، على عكس القلة (المدعومة) المتمركزة في بعض الأماكن الحساسة والمكتظة دائماً، وهؤلاء غالباً لا تطالهم المخالفات والإزالات، باعتبارها إشغالات مخالفة، وكأنهم غير مرئيين!.
فعملية التنظيم، والنقل للأماكن المخصصة أعلاه، قد تكون مناسبة لمن امتهن عمل البسطات بشكل نهائي، وخاصة لمن يمتلك رأس المال لهذه الغاية، لكنها بلا شك لن تكون مناسبة لمن يلجأ للعمل بها اضطراراً وفقراً برأس المال شبه المعدوم، له طابع يومي ولحظي غالباً، وهؤلاء غير قادرين على أن تشاركهم المحافظة أو غيرها بلقمة عيشهم، أو بجزءٍ بسيطٍ من رزقهم، ما يعني أن مشكلة هؤلاء ستبقى، كما ستبقى تداعياتها ملازمة لهم، والتي لم تقف عند حدود لجوئهم للبسطات كمصدر للعيش بالكفاف، ولعل الحديث عن هؤلاء يطول باعتبار أن مشكلتهم الأساسية مرتبطة بالسياسات الحكومية نفسها التي دفعتهم إلى الفقر والتهميش، وهو باب آخر لسنا بوارد فتحه هنا.
أسواق جديدة
بالعودة إلى الأماكن المخصصة بحسب المحافظة، فهي في الحقيقة بعيدة عن «قلب البلد» التي هي منطقة مكتظة بالكثير من المارة من المواطنين في جميع الأوقات، والبسطات فيها تعتبر من الخدمات لهؤلاء المارة دون الحاجة إليهم للذهاب إلى الأسواق بشكل خاص لشراء مستلزماتهم عموماً واليومية خصوصاً. إضافةً إلى ذلك تبقى هذه البسطات أرخص من المحال التجارية، كما تم نقله على لسان أحد المواطنين بقوله: «البضاعة ع البسطات أرخص من السوق بكتير بحدود نص القيمة إذا مو أكتر.. لهيك وقت منمرق نحنا ورايحين أو راجعين ع بيوتنا مناخد غراضنا من عندون... يعني نحن كوننا يا دوب عم نعيّش حالنا هدول هنن اللي راحمينا... لهيك منشان الغلا، العالم بتركض ع الرخيص...».
وقد يقول قائل إن سبب انخفاض أسعار البسطات هو عدم إضافة الكثير من النفقات والتكاليف على قيمة بضائعها (أجور المحال والكهرباء والرسوم وغيرها)، لكن الحقيقة الغائبة أن هؤلاء «البسطاطية الصغار» يقبلون بهوامش الربح القليلة غالباً، فعملهم يومي، أو موسمي في أحسن الأحوال، وهذا وذاك اضطراري، وهو الأهم.
بالنتيجة، إن عمليات التنظيم أعلاه هي عبارة عن إحداث أسواق جديدة خاصةً بهذه المناطق فقط، والتي يمكن الاستفادة منها من قبل ساكنيها على مستوى خدماتها المقدمة لهم، أو لمن تستقطبهم من خارجها، والتي سترفع من معدلات أسعارها بما يتوافق مع الرسوم المفروضة عليها لصالح المحافظة.
والسؤال الهامّ بعد كل هذا العرض، هل ستُحل مشكلة الإشغالات المخالفة بشكل نهائي وكلي، أم إن مشكلة «البسطات» الصغيرة والاضطرارية وأصحابها ستستمر لتبقى عين المحافظة عليها دون سواها من كل الإشغالات ذات الطابع التجاري الربحي من خلال احتلال الأرصفة، وتعمية عليها؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 938