حدائقنا العامة.. «رئات مُسرطنة»
باتت تمتاز العديد من حدائق دمشق العامة بحشود مراهقيها وشبّانها العاطلين عن العمل في غالبيتهم، والمتسيبين من دراستهم، ليجدوا في هذه الأماكن بُقعة تحوي بؤسهم وتَشردهم الناتج عن ظروف البلاد المعيشية والاقتصادية، بالإضافة إلى ما خلّفته الحرب من ضغوط اجتماعية ونفسية تستدعي التفريغ عنها هنا وهناك وبهذا الشكل أو ذاك، دون أي اكتراث من أية جهات رسمية ومسؤولة عن الظواهر الناتجة عن هذا الأمر، بل وفتح باب استغلال واستثمار هذه الحالة سواء بشكل ربحيّ مباشر، أو بطرق غير مشروعة، لتزيد الأمر سوءاً.
فقبل أكثر من خمس عشرة سنة، كانت هذه الحدائق مكاناً عاماً يشكل متنفّساً مجانياً لمواطني المنطقة أو المارين الذين يريدون استراحة قصيرة، وكان روّاد هذه الحدائق في غالبيتهم من كبار السنّ المتقاعدين والأطفال برفقة ذويهم، أو طُلاب الجامعات قبيل وبعد دوامهم، بصورة ليس فيها شائبة إلا فيما نَدر.
فما الذي حدث ليتجنب هؤلاء ويحلّ محلهم نشاط اجتماعي بطبيعة مختلفة كلياً، تحمل تشرّداً وسوءاً في هذا الحجم؟
اللبرلة أم الأزمة السورية؟
إن هذه المشكلة لم تبدأ مع الأزمة التي عصفت في بلادنا، بل كانت بوادرها منذ ذاك الحين الذي اختفت فيها بجعات هذه الحدائق وتبخّرت مياهها، سنينَ بالتوازي مع بدء اللبرلة الاقتصادية ببابها الواسع، مع ما تخلفه من تأثيرات طالت كل البلاد والعباد التي من ضمنها شبّاننا وحدائقنا، وعلاقة الأخيرين فيما بينهم.
فلا وجود اليوم لأي مكان له طبيعة جامعة شبابية متوفّر، كملاعب ونوادي ومقاهي وما شابه، إلّا ومُستثمر وتحدد أسعاره بالمضاربة في السوق لتصبح حُلماً لدى الكثيرين، فلا يبقى سوى هذه الحدائق المجانية حتى تصبح نموذجاً يُعبّر بصورة دراماتيكية عن مخلّفات هكذا سياسات على المجتمع، وما من مذنب ومُلام سوى أصحاب هذه اللبرلة، حكومةً ورؤوس أموال.
سوقٌ جديدٌ للاستثمار
أضف إلى ذلك كل التشوّهات الموجودة والمتراكمة ببنية الدولة من فساد، لتصبح هذه الحدائق سوقاً متاحاً بأرضية اجتماعية جديدة وغضّة من المُستهلكين صغار السن، ليتم شراؤها من قبل تُجّار الظلام، فينتشر أقل ما فيها مواد، مثل: الحشيش المخدر بباعته المتسترين بحياء، والمشروبات الكحولية المخلوطة بمشروبات الطاقة، بما تحمله من سمومية وخطر، توفّرها تلك الأكشاك المتواجدة عند كل باب من أبوابها، إضافة إلى شبكات المخدرات والدعارة التي تتغلغل في هذه الأوساط وتصطاد الأكثر هشاشةً فيهم لتستغلهم بحاجتهم ومعاناتهم بعد التوريط والترهيب.
مُشكلة مرتبطة بكل المشكلات
إن حلّ هكذا ظواهر لا يبدأ عبر «التوعية» و«التربية» كما تروج غالباً الجهات المحلية بإعلامها، التي تنسب هذه المشكلات على أنها قضايا «أخلاقية» أو «دينية»، ولا تُحل عبر تبرعات وحملات مهرجانية كما تفعل تلك المنظمات غير الحكومية التي باتت تتزايد يوماً بعد يوم، ترقيعاً وتعتيماً على جذور المشكلة المُتعلقة بطبيعة السياسات الاقتصادية الاجتماعية برمّتها، فمهما رقّعنا وحاولنا تجميل المشكلة وتوعية ضحاياها، سيقع آخرون بتأثيرها وضررها طالما الأسباب المنتجة لا زالت موجودة وتفعل فعلها في المجتمع..
إن حلّ مثل هذه الظواهر وغيرها يبدأ ببدء التغيير الحقيقي المطلوب على مُجمل سياسات الدولة جذرياً وبجميع جوانبها اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً.